للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عنده في ضيافته ثلاثة أسابيع، ورجع المعتمد إلى بلاده. وبإثر ذلك عبر إلى مراكش؛ ولم يزل ما بينه وبين المعتصم معمورًا إلى أن عبر أمير المسلمين كما ذكرنا، فلقيه المعتصم بهدايا فاخرة وتحف جليلة، وتلطف في خدمته حتى قربه أمير المسلمين أشد تقريب؛ وكان يقول لأصحابه: هذان رجلا هذه الجزيرة؛ يعني: المعتصم والمعتمد. وكان أكبر أسباب تقريب أمير المسلمين إياه، ثناء المعتمد عليه عند أمير المسلمين، ووصفه إياه عنده بكل فضل؛ ولم يكن المعتصم بعيدًا من أكثر ما وصفه به.

ولما اشتد تمكن المعتصم من أمير المسلمين، بدا له أن يسعى في تغيير قلبه على المعتمد وإفساد ما بينهما -حسن له ذلك سوء رأيه ودنس سريرته وضعف بصره بعواقب الأمور، وليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وليبلغ القدر ميقاته؛ وإذا أراد الله تمام أمر هيأ له أسبابًا- فشرع المعتصم فيما أراده من ذلك, ولم يدر أنه ساقط في البئر التي حفر، وقتيل بالسلاح الذي شهر، فكان من جملة ما ألقى إلى أمير المسلمين، أن جعل يقرر عنده عجب المعتمد بنفسه، وفَرْط كِبْره، وأنه لا يرى أحدًا كفؤًا له. وزعم أنه قال له في بعض الأيام -وقد قال له المعتصم: طالت إقامة هذا الرجل بالجزيرة، يعني: أمير المسلمين-: لو عوجْتُ له إصبعي ما أقام بها ليلة واحدة هو ولا أصحابه, وكأنك تخاف غائلته؛ وأي شيء هذا المسكين وأصحابه؟ إنما هم قوم كانوا في بلادهم في جهد من العيش، وغلاء من السعر، جئنا بهم إلى هذه البلاد نطعمهم حسبة وائتجارًا١، فإذا شبعوا أخرجناهم عنها إلى بلادهم! إلى أمثال هذا القول من تحقير أمرهم. وأعانه على ذلك قوم من وجوه الأندلس، إلى أن بلغوا ما أرادوه من تغير قلب يوسف أمير المسلمين على المعتمد.

وقد كان أمير المسلمين ضرب لنفسه ولأصحابه أجلًا وحد له ولهم مدة يقيمونها في الجزيرة لا يزيدون عليها. وإنما فعل ذلك تطييبًا لقلب المعتمد وتسكينًا لخاطره؛ فلما انقضت تلك المدة أو قاربت، عبر أمير المسلمين إلى العدوة وقد وغِر صدره وتغيرت نفسه: من الطويل

وما النفس إلا نطفة في قرارةٍ ... إذا لم تُكدَّر كان صفوًا غديرُها٢

هذا مع ما ذكرنا من طمعه في الجزيرة وتشوفه إلى مملكتها؛ وظهرت للمعتمد قبل عبوره أشياء عرف بها أنه غُيِّر عليه!.


١- احتسب فلان الأجر على الله: ادخره، وفعل الشيئ حسبة: أي مدخرا أجره على الله. ائتجر فلان ائتجارا: طلب الثواب بصدقة ونحوها.
٢- النطفة: القطرة، أو المني، أو الماء الصافي. القرارة: المكان المنخفض يندفع إليه الماء ويستقر فيه.

<<  <   >  >>