للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نكبة بني عباد

ورجع أمير المسلمين إلى مراكش وفي نفسه من أمر الجزيرة المُقِيم المُقعِد؛ فبلغني أنه قال لبعض ثقاته من وجوه أصحابه: كنت أظن أني قد ملكت شيئًا، فلما رأيت تلك البلاد، صغرت في عيني مملكتي؛ فكيف الحيلة في تحصيلها؟ فاتفق رأيه ورأي أصحابه على أن يراسلوا المعتمد يستأذنونه في رجال من صلحاء أصحابهم رغبوا في الرباط بالأندلس ومجاهدة العدو والكون ببعض الحصون المصاقبة١ للروم إلى أن يموتوا؛ ففعلوا، وكتبوا إلى المعتمد بذلك، فأذن لهم، بعد أن وافقه على ذلك ابن الأفطس المتوكل صاحب الثغور, وإنما أراد يوسف وأصحابه بذلك أن يكون قوم من شيعتهم مبثوثين بالجزيرة في بلادها، فإذا كان أمر من قيام بدعوتهم أو إظهار لمملكتهم وجدوا في كل بلد لهم أعوانًا.

وقد كانت قلوب أهل الأندلس -كما ذكرنا- قد أُشْرِبت٢ حب يوسف وأصحابه، فجهز يوسف من خيار أصحابه رجالاً انتخبهم، وأمَّر عليهم رجلاً من قرابته يسمى بُلُجِّين، وأسر إليه ما أراده، فجاز بلجين المذكور، وقصد المعتمد من ملوك الجزيرة فقال له: أين تأمرني بالكون؟ فوجه معه المعتمد من أصحابه من ينزله ببعض الحصون التي اختارها لهم، فنزل حيث أنزلوه هو وأصحابه. وأقاموا هناك إلى أن ثارت الفتنة على المعتمد، وكان مبدؤها في شوال من سنة ٤٨٣ بأخذ جزيرة طريف المقابلة لطنجة من العدوة، دون مقدمة ظاهرة توجب ذلك، فتشعبت جموعه وأهواؤُها ملتئمة، وانتثرت بلاده وقلوب أهلها على محبته منتظمة.

ولما أخذ المرابطون جزيرة طريف ونادوا فيها بدعوة أمير المسلمين، انتشر ذلك في الأندلس، وزحف القوم الذين قدمنا ذكرهم، الكائنون في الحصون، إلى قرطبة؛ فحاصروها وفيها عباد بن المعتمد الملقب بـ المأمون، وقد تقدم ذكره، وهو من أكبر ولده؛ فدخلوا البلد، وقتل عباد هذا بعد أن أبلى عذرًا، وأظهر في الدفاع عن نفسه جَلَدًا وصبرًا؛ ذلك في مستهل صفر الكائن في سنة ٤٨٤؛ فزادت الإحنة٣ والمحنة، واستمرت في غُلَوائها٤ الفتنة.

وأجمعت على الثورة بحضرة إشبيلية طائفة، فأُعلم المعتمد بما اعتقدته الطائفة


١- صاقب المكان مصاقبةً وصقابًا: قاربه، ودنا منه، وواجهه.
٢- أُشربت قلوبهم: أُشبعت.
٣- الإحنة: الحقد والضغْن.
٤- الغلواء: الغلو، وغلواء الشباب: أوله وحِدَّته.

<<  <   >  >>