للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المذكورة، وكشف له عن مرادها، وأثبت عنده سوء اعتقادها، وأغري بتمزيق أديمها١ وسفك دمها، وحض على هتك حريمها وكشف حرمها؛ فأبى له ذلك مجده الأثيل٢، ورأيه الأصيل، ومذهبه الجميل، وما حباه الله٣ به من حسن اليقين، وصحة العقل والدين؛ إلى أن أمكنتهم الغِرَّة٤ يوم الثلاثاء منتصف رجب من السنة المذكورة، فقاموا بجيش غير مستنصر، واسْتَنْسَرُوا بُغاثًا غير مُسْتَنْسَر٥؛ فبرز هو من قصره، سيفه بيده، وغلالته٦ تَرِفُّ٧ على جسده، لا دَرَقة٨ له ولا درع عليه؛ فلقي على باب من أبواب المدينة يسمى باب الفرج فارسًا من الداخلين مشهور النجدة شاكي السلاح، فرماه الفارس برمحٍ قصيرِ أنابيبِ القناة، طويلِ شفرة السنان؛ فالتوى الرمح بغلالته وخرج تحت إبطه، وعصمه الله منه، ودفعه بفضله عنه؛ وصب هو سيفه على عاتق الفارس فشقه إلى أضلاعه فخر صريًعا، وانهزمت تلك الجموع، ونزل المتسنِّمون٩ للأسوار عنها؛ وظن أهل إشبيلية أن الخناق قد تنفَّس.

فلما كان عصر ذلك اليوم، عاودهم القوم، فظُهر على البلد من واديه، ويُئس من سكنى ناديه، وبلغ فيه الأمل حاسده وشانيه١٠، وشبت النار في شوانيه، فانقطع عندها الأمل والقول، وذهبت القوة من أيدي أهلها والحَوْل. وكان الذي ظهر عليها من جهة البر، رجل من أصحاب يوسف أمير المسلمين يعرف بحُدَير بن واسْنُو؛ ومن الوادي رجل يعرف بالقائد أبي حمامة مولى بني سُجُّوت؛ والتوت الحال أيامًا يسيرة، إلى أن ورد الأمير سِيرُ بن أبي بكر بن تاشفين -وهو ابن أخي أمير المسلمين- بعساكر متظاهرة، وحشود من الرعية وافرة، والناس في خلال هذه الأيام قد خامرهم الجزع١١، وخالط قلوبهم


١- الأديم: الجلد.
٢- الأثيل: الأصيل.
٣- حباه الله: اختصه.
٤- الغرة: الغفلة في اليقظة.
٥- استنسر: تشبه بالنسر. البغاث: طائر صغير أبغث اللون، أصغر من الرخم، بطيء الطيران. وفي المثل: "إن البغاث في أرضنا يستنسر" ومعناه: من جاورنا عز بنا.
٦- الغلالة: ثوب رقيق يُلبس تحت الدثار.
٧- ترف: تضطرب وتتحرك.
٨- الدرقة: ترس من جلد ليس فيه خشب ولا عَقَب.
٩- تسنَّم السور: علاه.
١٠- الشانئ: المبغض.
١١- خامرهم: خالطهم ومازجهم. الجزع: عدم الصبر على المصيبة.

<<  <   >  >>