للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ما سرت قَطُّ إلى القتا ... ل وكان من أملي الرجوعْ

شِيَم الأُلى أنا منهمو ... والأصل تَتْبعه الفروعْ! ١

فشُنت الغارة في البلد، ولم يترك البربر لأحد من أهلها سَبدًا ولا لَبَدًا٢، وانتهبت قصور المعتمد نهبًا قبيحًا، وأخذ هو قبضًا باليد، وجُبر على مخاطبة ابنيه: المعتد بالله، والراضي بالله، وكانا بمعقلين من معاقل الأندلس المشهورة، لو شاءا أن يمتنعا بهما لم يصل أحد إليهما، أحد الحصنين يسمى رُندَة، والآخر مارْتُلَة؛ فكتب إليهما -رحمه الله-، وكتبت السيدة الكبرى أمهما، مستعطفينِ مسترحمينِ، مُعلِمينِ أن دم الكل منهم مُسترهَن بثبوتهما. فأنفا من الذل، وأبيا وضع أيديهما في يد أحد من الناس بعد أبيهما. ثم عطفتهما عواطف الرحمة، ونظرا في حقوق أبويهما المقترنة بحق الله عز وجل. فتمسك كل منهما بدينه، ونبذ دنياه، ونزلا عن الحصنين بعد عهود مبرمة، ومواثيق محكمة. فأما المعتد بالله فإن القائد الواصل إليه قبض عند نزوله على كل ما كان يملكه. وأما الراضي بالله فعند خروجه من قصره قُتل غِيلةً٣ وأخفي جسده.

ورُحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع أحواله، ولم يصحب من ذلك كله بُلْغة٤ زاد؛ فركب السفين، وحل بالعدوة محل الدفين؛ فكان نزوله من العدوة بطنجة؛ فأقام بها أيامًا، ولقيه بها الحصري الشاعر٥، فجرى معه على سوء عادته من قبح الكُدْية٦ وإفراط الإلحاف٧، فرفع إليه أشعارًا قديمة قد كان مدحه بها، وأضاف إلى ذلك قصيدة استجدها عند وصوله إليه. ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم مما زود به فيما بلغني أكثر من ستة وثلاثين مثقالًا، فطبع عليها وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها -سقطت من حفظي- ووجه بها إليه. فلم يجاوبه عن القطعة، على سهولة الشعر على خاطره وخفته عليه. كان هذا الرجل -أعني الحصري- الأعمى-


١- الشيم: الطباع أو الخصال.
٢- السبد: القليل من الشعر. اللبد: الصوف.
يقال: ما له سبد ولا لبد: ما له قليل ولا كثير.
٣- الغيلة: الاغتيال، وقتل غيلة: على غفلة منه.
٤- البلغة: ما يكفي لسد الحاجة ولا يفضل عنها.
٥- هو أبو الحسن، علي بن عبد الغني الفهري الحصري: شاعر من أهل القيروان. سكن الأندلس مدة، وتوفي في طنجة سنة ٤٨٨هـ/١٠٩٥م. "الأعلام، الزركلي: ٣٠٠/٤".
٦- الكدية: حرفة السائل المُلِحّ.
٧- الإلحاف: يقال: ألحف السائل إلحافًا: ألحَّ بالمسألة.

<<  <   >  >>