فأما أحوال جزيرة الأندلس، فإنه لما كان آخر دولة أمير المسلمين أبي الحسن علي بن يوسف، اختلت أحوالها اختلالاً مفرطاً، أوجب ذلك تخاذل المرابطين وتواكلهم، وميلهم إلى الدعة، وإيثارهم الراحة، وطاعتهم النساء؛ فهانوا على أهل الجزيرة، وقلوا في أعينهم، واجترأ عليهم العدو، واستولى النصارى على كثير من الثغور المجاورة لبلادهم. وكان أيضًا من أسباب ما ذكرناه من اختلالها، قيام ابن تومرت بسوس، واشتغال علي بن يوسف به عن مراعاة أحوال الجزيرة.
ولما رأى أعيان بلاد تلك الجزيرة ما ذكرناه من ضعف أحوال المرابطين، أخرجوا من كان عندهم من الولاة، واستبد كل منهم بضبط بلده. وكادت الأندلس تعود إلى سيرتها الأولى بعد انقطاع دولة بني أمية. فأما بلاد أفراغة فاستولى عليها ملك أرغن -لعنه الله-، وملك مع ذلك سرقسطة -أعادها الله للمسلمين- وكثيرًا من أعمال تلك الجهات.
واتفق أمر أهل بلنسية ومرسية وجميع شرق الأندلس على تقديم رجل من أعيان الجند اسمه عبد الرحمن بن عياض. وكان عبد الرحمن هذا من صلحاء أمة محمد وخيارهم؛ بلغني عن غير واحد من أصحابه أنه كان مجاب الدعوة, من عجائب أمره أنه كان أرق الناس قلبًا وأسرعهم دمعة، فإذا ركب وأخذ سلاحه لا يقوم له أحد ولا يستطيع لقاءه بطل؛ كان النصارى يعدونه وحده بمائة فارس، إذا رأوا رايته قالوا: هذا ابن عياض! هذه مائة فارس! فحمى الله تلك الجهات ودفع عنها العدو ببركة هذا الرجل الصالح. وانتشر له من الهيبة في صدور النصارى ما ردهم عن البلاد. وأقام ابن عياض هذا بشرقي الأندلس يحفظ تلك البلاد ويذود عنها إلى أن توفي، رحمه الله ونضَّر وجهه وشكر له سعيه. لا أتحقق تاريخ وفاته.
وقام بأمر تلك الجهات بعده رجل اسمه محمد بن سعد، المعروف عندهم بـ ابن مردنيش. كان محمد هذا خادمًا لابن عياض، يحمل له السلاح ويتصرف بين يديه في حوائجه؛ فلما حضرته الوفاة اجتمع إليه الجند وأعيان البلاد فقالوا له: إلى