ومن أولاده طلحة، ولي قضاء تلمسان؛ ويوسف، تركته قاضيًا بمدينة فاس، بلغتني وفاته وأنا بمكة في سنة ٦٢٠؛ وأبو عمران موسى، قاضي الجماعة في وقتنا هذا، وسيأتي ذكره في موضعه -إن شاء الله عز وجل-.
ثم ولي بعد أبي موسى هذا رجل اسمه حجاج بن إبراهيم التُّجيبي، من أهل مدينة أغمات من أعمال مدينة مراكش. كان حجاج هذا رجلا صالحًا يعد في الزهاد المتبتلين، وكان له تبحر في الفقه ومعرفة بأصوله وبَصَرٌ بعلم الحديث. هذا مع نزاهة نفس وطهارة عِرض وتصميم في الحق؛ أفرط في ذلك حتى ثقلت على كثير من وجوه الدولة وَطْأَتُه، ونالوا منه عند أبي يعقوب؛ فما زاده ذلك إلا حبًّا وتقريبًا، إلى أن مات -رحمه الله- في حياة أبي يعقوب. بلغ من رقة قلبه وسرعة دمعته أنه دخل يومًا على أمير المؤمنين أبي يعقوب وقد بل لحيته ورداءه بدموعه؛ فلما مَثَل بين يديه زاد في البكاء، فسأله أمير المؤمنين عما أبكاه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، سألتك بالله، ألا أعفيتني؟ قال: عزمت عليك لتخبرني أولًا بسبب بكائك! قال: بينا أنا قاعد في مجلس الحكم إذ أُتيت بشيخ سكران كنت قد حدَدْتُه مرارًا، فكان من كلامي أن قلت له: يا شيخ، كيف تُحشَر؟ ففتح يديه وقال: هكذا ... فوالله ما ملكت دمعتي حين عرفت ما عنى بقوله؛ إنما عَرَّض لي بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن القاضي يحشر مطوقةً يداه إلى عنقه؛ فإما أن يحله عدله أو يهوي به جَوْره"! هذا معنى الحديث؛ فأسألك بالله، ألا أعفيتني؟ فوعده بذلك؛ فقال: عسى أن يكون في مقامي هذا! فقال له: لا أفعل حتى أجد عوضًا منك! فخرج من عنده، فما لبث إلا أيامًا يسيرة حتى مات -رحمة الله عليه-!.
ثم ولي بعده القضاء أبو جعفر أحمد بن مَضَاء، من أهل مدينة قرطبة؛ فلم يزل أبو جعفر هذا قاضيًا إلى أن مات أمير المؤمنين أبو يعقوب، وصدرًا من خلافة أبي يوسف المنصور -رحمه الله-.