للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مدينة مرسية مستعدًّا للحصار؛ فضايقه الموحدون، وما زالوا محاصرين له إلى أن مات وهو في الحصار حتف أنفه. وسُترت وفاته إلى أن ورد أخوه يوسف بن سعد، الملقب بالرئيس، من بلنسية؛ وكان والياً عليها من جهة أخيه محمد؛ فاجتمع رأيه ورأي أكابر ولد محمد بن سعد -بعد أن أتهَمُوا وأنجدوا١ وأخذوا في كل وجه من وجوه الحيل- على أن يلقوا أيديهم في يد أمير المؤمنين أبي يعقوب، ويسلموا إليه البلاد، ففعلوا ذلك. وقيل: إن أبا عبد الله محمد بن سعد حين حضرته الوفاة، جمع بنيه -وكان له من الولد على علمي ثمانية ذكور، وهم: هلال -يكنى: أبا القمر، وهو أكبر ولده وإليه أوصى- وغانم، والزبير، وعزيز، ونصير، وبدر، وأرقم، وعسكر، وأصاغر لا علم لي بأسمائهم، وبنات تزوج إحداهن أمير المؤمنين أبو يعقوب، وتزوج الأخرى أمير المؤمنين أبو يوسف يعقوب بن يوسف- فكان فيما أوصاهم به أن قال: يا بَنِيَّ، إني أرى أمر هؤلاء القوم قد انتشر، وأتباعهم قد كثروا، ودخلت البلاد في طاعتهم؛ وإني أظن أنه لا طاقة لكم بمقاومتهم؛ فسلموا إليهم الأمر اختيارًا منكم، تحظوا بذلك عندهم، قبل أن ينزل بكم ما نزل بغيركم؛ وقد سمعتم ما فعلوا بالبلاد التي دخولها عنوة! ففعلوا ما أمرهم به؛ فالله أعلم أي الأمرين كان.

وخرج أمير المؤمنين أبو يعقوب من إشبيلية قاصدًا بلاد الأدفنش -لعنه الله- فنزل على مدينة له عظيمة تسمى وَبْذَة، وذلك أنه بلغه أن أعيان دولة الأدفنش ووجوه أجناده في تلك المدينة. فأقام محاصرًا له أشهرًا، إلى أن اشتد عليهم الحصار وأرادوا تسليم البلد. أخبرني جماعة يكثر عددهم ممن أدركت من شيوخ أهل الأمر، أن أهل هذه المدينة لما بَرَّح بهم العطش أرسلوا إلى أمير المؤمنين يطلبون الأمان على أنفسهم، على أن يخرجوا له عن المدينة؛ فأبى ذلك عليهم، وأطمعه فيهم ما نقل إليه من شدة عطشهم وكثرة من يموت منهم؛ فلما يئسوا مما عنده سُمع لهم في بعض الليالي لَغَط٢ عظيم وجَلَبة٣ أصوات؛ وذلك أنهم أخرجوا أناجيلهم، واجتمع قسِّيسوهم ورهبانهم يدعون ويؤمن٤ باقيهم، فجاء مطر عظيم كأفواه القِرَب٥، ملأ


١- أتهموا "في الأصل": أتوا تهامة، وهي منخفَض من الأرض. أنجدوا "في الأصل": أتوا نجدًا، وهي مرتفَع من الأرض. والمراد هنا: أنهم تدارسوا الأمر من جميع جوانبه.
٢- لغَط القوم لغَطًا، ولُغاطًا: صوتوا أصواتًا مختلفة مبهمة, لا تفهم.
٣- الجلبة: الصياح والصَّخَب.
٤- أمنوا على الدعاء: قالوا: آمين.
٥- القرب: جمع القربة: ظَرْف من جلد يخرز من جانب واحد، يستعمل لحفظ الماء.

<<  <   >  >>