للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في دمشق ويمكن أيضًا أنه أراد فرقة الخوارج المعروفة. ولكن ينبغي ألا يبالغ في أثر هذه العزلة، فليست السلطة الأموية هي المسئولة عن إساءة سمعة العراقيين العلمية بل لعل إهمالها إياهم وعدم استفتائهم في الأحداث يعود إلى ضعف الثقة بهم أكثر مما يعود إلى أمور السياسة، وما كان بوسع السلطة أن تمنع أحدًا من الاتصال بالعراقيين والأخذ عنهم، ثم إن ضعف الثقة بروايات العراق استمر فيما بعد حتى صرح علماء أعلام بأنهم كانوا يرومون الاستغناء عن مرويات العراقيين فهذا عبد الله بن المبارك "ت١٨٠هـ" يقول: "ما دخلت الشام إلا لأستغني عن حديث أهل الكوفة"١.

وهذا مالك بن أنس فقيه المدينة العظيم لم يرو عن أحد من الكوفييين سوى عبد الله بن إدريس الذي كان على مذهبه، وكان يقول في ذلك كما لم يرو أولونا عن أوليهم كذلك لا يروي آخرونا عن آخريهم٢ وكلام مالك صريح في أن عدم رواية العلماء عن الكوفيين ليست ظاهرة برزت في جيله بل أن جيله كان يتابع الأقدمين في عدم الأخذ عنهم.

وقد حذر مالك كما حذر علماء بلدان أخرى من الأحاديث التي مصدرها العراق حتى رأى مالك إنزالها منزلة أحاديث أهل الكتاب أي لا تصدق ولا تكذب٣. وقد ذكر له عبد الرحمن بن مهدي أن ما سمعه من الحديث بالمدينة خلال أربعين يومًا يسمعه في يوم واحد بالعراق فكان جواب مالك: من أين لنا دار الضرب التي عندكم؟ تضربون بالليل وتنفقون بالنهار٤ وهكذا عزا مالك كثرة الأحاديث التي يتداولها العراقيون إلى الوضع في الحديث في حين يتشدد أهل المدينة في قبول الحديث وروايته فلا يسلم منه إلا القليل وهذا التدقيق في الحديث هو الذي أكسب علم المدينة ثقة علماء المدن الإسلامية


١ المصدر السابق ١/ ٧٠.
٢ ابن عدي: الكامل ١/ ٣أ.
٣ ابن تيمية: المنتقى من منهاج الاعتدال، ٨٨.
٤ المصدر السابق: ٨٨.

<<  <   >  >>