ولهذا لم يشرع لها رفع الصوت في الأذان والتلبية، ولا الصعود (كذا، ولعله: في الصعود) إلى الصفا والمروة، ولا التجرد في الإحرام كما يتجرد الرجل، فإن الرجل مأمور أن يكشف رأسه، وأن لا يلبس الثياب المعتادة، وهي التي تصنع على قدر أعضائه، فلا يلبس القميص ولا السراويل، ولا البرنس ولا الخف، لكن لمَّا كان محتاجاً إلى ما يستر العورة ويمشي فيه، رخص له في آخر الأمر إذا لم يجد إزاراً أن يلبس سراويل، وإذا لم يجد نعلين أن يلبس خفين، وجعل ذلك بدلاً للحاجة العامة، بخلاف ما يحتاج إليه حاجة خاصة لمرض أو برد، فإن عليه الفدية إذا لبسه، ولهذا طرد ابو حنيفة هذا القياس، وخالفه الأكثرون للحديث الصحيح، ولأجل الفرق بين هذا وهذا، وأما المرأة فإنها لم تنه عن شيء من اللباس لأنها مأمورة بالاستتار والاحتجاب، فلا يشرع لها ضد ذلك، لكن منعت أن تنتقب، وأن تلبس القفازين، لأن ذلك لباس مصنوع على قدر العضو، ولا حاجة بها إليه.
وقد تنازع الفقهاء هل وجهها كرأس الرجل أو كبدنه؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، فمن جعل وجهها كرأسه، أمرها إذا سدلت الثوب من فوق رأسها أن تجافيه عن الوجه، كما يجافي عن الرأس ما يظلل به، ومن جعله كاليدين ـ وهو الصحيح ـ قال: لم تنه عن ستر الوجه وإنما نهيت عن الإنتقاب كما نهيت عن القفازين، وذلك كما نُهي الرجل عن القميص والسراويل، ونحو ذلك، ففي معناه البرقع، وما صنع لستر الوجه. فأما تغطية الوجه بما يسدل من فوق الرأس، فهو مثل تغطيته عند النوم بالملحفة ونحوها، ومثل تغطية اليدين بالكمين، وهي لم تنه عن ذلك.
فلو أراد الرجال أن ينتقبوا ويتبرقعوا، ويَدَعوا النساءَ باديات الوجوه لمُنعوا من ذلك، وكذلك المرأة أُمرت أن تجتمع في الصلاة، ولا تجافي بين أعضائها - الصواب أن المرأة كالرجل في الصلاة -، وأمُرت أن تغطي رأسها، فلا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار، ولو كانت في جوف بيت لا يراها أحد من الأجانب، فدل ذلك على أنها مأمورة من جهة الشرع بسترٍ لا يؤمر به الرجل حقاً لله عليها، وإن لم يرها بشر، وقد قال تعالى:
{وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}،
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)).
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
((صلاة إحداكن في مخدعها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي)) - رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان وهو حديث حسن -. وهذا كله لما في ذلك من الاستتار والاحتجاب.