للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ومعلوم أن المساكن من جنس الملابس، كلاهما جعل في الأصل للوقاية ودفع الضرر، كما جعل الأكل والشرب لجلب المنفعة، فاللباس يتقي الإنسان به الحر والبرد ويتقي به سلاح العدو، وكذلك المساكن يتقي بها الحر والبرد، ويتقي بها العدو، وقال تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً}، وقال: {والله جعل لكم مما خلق ظلالاً، وجعل لكم من الجبال أكناناً، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرَّ، وسرابيل تقيكم بأسكم، كذلك يتمُّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون}، فذكر في هذا الموضع ما يحتاجون إليه لدفع ما قد يؤذيهم، وذكر في أول السورة ما يضطرون إليه لدفع ما يضرهم،

فقال تعالى: {والإنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع ومنها تأكلون}، فذكر ما يستدفئون به ويدفعون به البرد، لأن البرد يهلكهم، والحر يؤذيهم، ولهذا قال بعض العرب: البرد بؤس، والحر أذى، ولهذا السبب لم يذكر في الآية الأخرى وقاية البرد، فإن ذلك تقدم في أول السورة، وهو في أثناء السورة ما أتم به النعمة، وذكر في أول السورة أصول النعم، ولهذا قال: {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون}.

والمقصود هنا، أن مقصود الثياب يشبه مقصود المساكن، والنساء مأمورات في هذا بما يسترهن ويحجبهن، فإذا اختلف لباس الرجال والنساء مما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب، كان للنساء، وكان ضده للرجال.

وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان: أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء، والثاني: احتجاب النساء، فلو كان مقصوده مجرد الفرق، لحصل ذلك بأي وجه حصل الاختلاف، وقد تقدم فساد ذلك، بل أبلغ من ذلك أن المقصود بلباس أهل الذمة؛ إظهار الفرق بين المسلم والذمي، ليترتب على كلٍ منهما من الأحكام الظاهرة ما يناسبه، ومعلوم أن هذا يحصل بأي لباس اصطلحت الطائفتان على التميز به، ومع هذا فقد روعي في ذلك ما هو أخص من الفرق، فإن لباس الأبيض لما كان أفضل من غيره، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بالبياض، فليلبسه أحياؤكم، وكفنوا فيه موتاكم))، لم يكن من السنة أن يجعل لباس أهل الذمة أبيض، ولباس أهل الاسلام المصبوغ، كالعسلي والأدكن ونحو ذلك، بل الأمر بالعكس، وكذلك في الشعور وغيرها، فكذلك الأمر في لباس الرجال والنساء، ليس المقصود به مجرد الفرق، بل لا بد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار.

وكذلك أيضاً ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال، بل الفرق أيضاً مقصود، حتى لو قدر أن الصنفين اشتركوا في ما يستر ويحجب بحيث يشتبه لباس الصنفين لنهو عن ذلك، والله تعالى قد بين هذا المقصود أيضاً بقوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}، فجعل كونهن يعرفن باللباس الفارق أمراً مقصوداً، ولهذا جاءت صيغة النهي بلفظ التشبه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله المتشبهات

<<  <   >  >>