فأجابه إبراهيم عليه السلام بقوله:} قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا {.وقرر بعد ذلك أن يهاجر بدينه لا أن يهجر والديه، كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتركوا الآباء والأمهات، قال ابن كثير في تفسيره عند كلامه عن قول الله تعالى من سورة العنكبوت:} وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {.قال: يحتمل عود الضمير في قوله: وقال ـ على لوط، لأنه أقرب المذكورين، ويحتمل عوده إلى إبراهيم - قال ابن عباس، والضحاك: وهو المكنى عنه بقوله:} فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ {. أي: من قومه. ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم، ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك. اهـ. والله أعلم.
[الخلاصة في أحكام الهجرة]
تنقسم الهجرة الشرعية إلى قسمين: أ- حسية. ب- معنوية.
الهجرة المعنوية (القلبية) هي الهجرة الحقيقية والأصلية والهجرة الحسية تابعة لها وهي الفرار مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً فرار من الجهل إلى العلم ومن الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة ومن الغفلة إلى الذكر.
وأما عن أقسام الناس في الهجرة الحسية من حيث وجوبها وعدمه فاعلم أن الناس في ذلك على ثلاثة أضرب: أحدها: من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة. الثاني: من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر.
الثالث: من لا توصف له لا بوجوب ولا باستحباب وذلك لعدم استطاعته على الهجرة الواجبة وهو العاجز بعذر من أسر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أُجر. الرابع: من تُكره له وهو المسلم الذي يقيم في دار الكفر لمصلحة المسلمين.
وأخيراً اعلم أخي المسلم أن الهجرة فراراً بالدين واجبة ولو لم يأذن لك الوالدين , واعلم أيضاً أن الهجرة من بين أهل المعاصي ومن الوطن الذي يُهجر فيه المعروف ويشيع فيها المنكر وترتكب فيها المعاصي جهاراً مندوبة وليست بواجبة إلا إذا لم تستطع إظهار دينك مع القدرة على الهجرة فإنها واجبة حينئذٍ وبهذا يتبين لك أن مناط وجوب الهجرة هو العجز عن إقامة الدين وإظهاره بغض النظر عن كون البلد مسلمة أو كافرة، وإن من قدر على إقامة دينه في أي بلاد كانت , فالهجرة في حقه مستحبة وإقامة الدين وإظهاره يعني القيام بشعائر الإسلام بدون ممانع فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذِ.
وبالجملة فالإقامة في كل بلد تكون فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير فهي أفضل من الإقامة في موضع يكون حالك فيه دون ذلك من طاعة الله ورسوله.