وكذلك عند الظاهرية: فقد اعتبر ابن حزم غلبة الطاعة مع عدم الإقدام على كبيرة شرط العدالة.
دليل مقياس الغلبة:
ما تقدم من ترجيح مقياس غلبة الصغائر لتفسيق المكلف يمكن الاستدلال له بما يلي:
١ - قوله تعالى: {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} [الأعراف: ٨ ـ ٩].
٢ - وقوله تعالى: {فأما من ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية} [القارعة: ٦ ـ ١١].
وجه الدلالة: أنَّ من غلبت حسناتُه سيئاتِه كان من الناجين، ومن غلبت سيئاتُه حسناتِه فهو من الخاسرين، فالحكم للأغلب.
٣ - قوله تعالى: {يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} [البقرة: ٢١٩].
وجه الدلالة: أنَّ الله سبحانه وتعالى غلَّب حكم الأغلب من كثرة مفاسد الخمر على منافعه في حكم التحريم، فيستفاد من الآية أنَّ الحكم للأغلب.
٤ - عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومُحَقَّرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكْنَه»، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً: كمثل قومٍ نزلوا أرض فلاةٍ، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سَوَاداً فأجَّجوا ناراً، وأنضجوا ما قذفوه فيها.
٥ - عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقلت، فإن عاد زِيدَ فيها، فإن عاد زيدَ فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي ذكر الله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: ١٤].
وجه الدلالة في هذين الحديثين: أنَّ صغائر الذنوب التي عُبِّر عنها بالمحقرات والخطيئة، إنما يهلكن صاحبهن إذا غلبن وتراكمن، فالعبرة دائماً بالغلبة.
٦ - أنَّ مقياس الغلبة مقياسٌ ثابت معتبر عند الفقهاء في تعاملهم مع المسائل الفقهية، وقد صاغ الفقهاء هذا المعنى صياغة القواعد الفقهية، فقالوا: «للأكثر حكم الكل» وقالوا: " قيام الأكثر مقام الكل أصلٌ معتبر في الشريعة ".
٧ - أنَّ أحداً قلَّما يكون خالصاً للطاعة، أو سالماً من المعصية، ولا تكون الطاعة مقصورةً على خلوص الطاعات، ولا الفسق مقصوراً على خلوص المعاصي لامتناع خلوص كل واحد منهما، ولا اعتبار بالممتنع، فوجب اعتبار الأغلب من أحوال المكلف، فإن كان الأغلب عليه الطاعة والمروءة حُكِمَ بعدالته، وإن عصى ببعض الصغائر، وإن كان الأغلب عليه المعصية حُكم بفسقه.