يمكن ضبط غلبة الصغائر على الطاعات بالطرق التالية: بالعُرف وظاهر حال الشخص: فما اعتبره عدول الناس من كثرة معاصي شخصٍ ما وغلبتها على طاعته، فهو فاسق باعتبارهم هذا , ومن كان ظاهره غَلبة الطاعة كان عدلاً، ومن كان ظاهره غلبة المعصية فهو فاسق.
تنبيه: كل من تقع منه الصغيرة فيقلع عنها ويتوب ثم يواقعها من غير عزمٍ سابق على تكرار الفعل، فليس بإصرار، فكل صغيرة تاب عنها المكلف لا تدخل فيما ذُكر من الغلبة؛ لأن التوبة الصحيحة تُذهب أثر الصغيرة بالكلية.
[حقيقة القول بأنه لا صغيرة مع الإصرار]
لأهل العلم في الإصرار على الصغيرة هل يُصَيِّرها كبيرة؟ قولان:
الأول: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الإصرار على الصغيرة يُصيِّرها كبيرة.
وقد استدل هؤلاء بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار»
ووجه الدلالة: أن الصغيرة تعظم بالمواظبة عليها فتصير كبيرة , ولكن هذا الحديث فيه مقال فقد رواه القضاعي في مسند الشهاب والديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي شيبة الخرساني وقد ذكر البخاري أنه لا يتابع على حديثه وقال الذهبي عنه في الميزان: أتى بخبر منكر وذكر هذا الحديث. كما ضعفه العراقي في تخريج الإحياء والسخاوي في المقاصد الحسنة وابن رجب في جامع العلوم والحكم.
وللعلم فاعتبار الإصرار على الصغيرة كبيرةً هو من باب الإلحاق؛ فهو «لا يصيّر الصغيرةَ كبيرةً حقيقة، وإنما يلحقها بها في الحكم».
الثاني: بالمقابل ذهب بعض العلماء إلى أن الإصرار على الصغيرة صغيرة، لا يصيرها كبيرة , واحتجوا بالنصوص المفرقة بين الكبائر والصغائر، كقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}[النساء:٣١]، وكقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (٢٢٣) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". جاء في «البحر المحيط» للزركشي: «إنَّ الإصرار حكمه حكم ما أصر به عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة .. ». وقال الشوكاني:«وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به .. بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصَرَّ عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة». والذي يظهر لي أن القول الثاني وهو أن الصغيرة لا تصير كبيرة بتكرارها، والمداومة عليها، سواء أكان التكرار لصغيرة بعينها، أو لجنس الصغائر- أقرب للصواب، وأما ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، فمحمول على أن الإصرار هو استدامة غير الآبه بحدود الله تعالى، ولا المبالي بحرماته، ولا المعظم لأمره ونهيه، وهذا لا ريب أنه من كبائر ذنوب القلوب، وأما الاستدامة لغلبة الشهوة ونحو ذلك، مع خوف العقوبة، ووجل المؤاخذة، فليس كبيرة، والله أعلم.