وعدل بالرياح عن مباراته سلوكها في الاعتراف له جادة الإنصاف، وترقى المملوك إلى رتب العز من ظهورها وأعدها مطية الجنان إذ الجهاد عليها من أنفس مهورها، وكلف بركوبها فكلما أكمله عاد، وكلما مله سره، فلو أنه زيد الخيل لما زاد، ورأى من آدابها ما دل على أنها من أكرم الأصائل وعلم أنها ليومي سلمه وحربه، جنة الصائد، وجنة الصائل، وقابل إحسان مهديها بثنائه ودعائه، وأعدها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه. والله تعالى نشكر بره الذي أفرده في الندى بمذاهبه وجعل الصافنات الجياد من بعض مواهبه".
وقال الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة: "وأما الخيل المسيرة فقد وجد المملوك لذة أنسها، وأوجب على نفسه فروض خمسها، واستنهض لشكر محاسنها براعته فسعت ولكن على رأسها، واستنزلت الآمال من صياصها، وقبلها عوض أنامله الشريفة لأنها عددها، وما هي إلاّ زهرات أنبتها سحاب كفه الكريمة، وعقود طوق بها جيد العبد فسبح بمدامع نعمها العميمة، ومنابر قام عليها خطيباً بمحاسنه التي من كتمها فكأنما كتم من المسك لطيمه، فمن أشهب كأنه طلعة لجج أو قطعة صبح أو غرة يغرب بأشعته إبدار جنح قد تزينت منه الأوضاع، وانقطعت دون غايته الأطماع، واعتذرت له الريح فصوب أذنيه للسماع، وأصبح لصاحبه نعم العون في السبق، والفوت يوم القراع، وكاد أن يطير مع الطيور، فكم له من غبار السبق أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ما حدث عن حسن إلاّ رآه، ولا امتطاه حازم إلاّ حمد عند صباح لونه سراه، يقرب الضرب سفرات عزائمه المسفرة، ويختال في الخيل كالنهار، فلا جرم أن آيته مبصرة، كم ثنى عنانه كبراً عن مسابقة الرياح وأعرض، وكم تعب عليه عازم حتى فاز منه بالعيش إلاّ أنه الأبيض، ومن أشقر كأنه غزالة شرق فسيح اللبان، رقيق مجرى العنان بروق الأبصار ويدني الأوطان والأوطار، وتسمع بوقع حوافره صم الأحجار، يضعف البصر عن اقتناء ماله من السنن، ويعجز عن بلوغ غايته السيل إذا هجم الغيث أو هتن، وتعجز عن شأوه الرياح، فعن عذر إذا حثت في وجهها التراب فكأنما أصعد لأشعته النجوم فكسبها، أو راهن البرق على حلته فسلبها ولبسها. قرنت حركاته بحسن الاتفاق وحكمته في تطلعها الشموس عند الإشراق، فامتدت كف الثريا تمسح عن وجهه غبار السباق.
ومن كميت يسر الناظر ويشوق الخاطر، كأنه جذوة نار أو كأس عقار أحلى من الضرب، له من نفسه طرب، كم خدمه من النصر أعوان، وأسكره اسمه، فاختال تحت راكبه كالنشوان، وزاد لونه حتى كأنما هو بهرام، وأجله أن أقول بهرام، سريع شوطه وأضيع ما في عدته سوطه، يجمع لراكبه ما بين الطرب والجلالة، وتحتجب الشمس إذا تصدى للصيد خوفاً من تسميتها بالغزالة، كم أرعد بصهيله وأبرق وكم لقي من الموت الأحمر العدو الأزرق، تقصر عن غاياته الهمم، واسود ذنبه فكأنما لذوب نار جسمه حمم، يوسع أهل الحي سيراً، ويقد بخنجر نعله أديم الأرض سيراً، ومن أصفر يسر النظار ويسمو على النضار، وربما شق سعيه على الأبصار، ويخفق البرق وراءه في المضمار، كم أوسع رمقه في ليل السرى من سهر، وكم نقش بنعله ظهر جبل، فجاء كما قيل نقش على حجر، يطلع بسماء الطلب أهلة هو عيدها، وإذا امتطاه عازم رأى الأرض تطوي له ويدنو بعيدها، كم حسن خبراً وخبراً وتأثيراً وأثراً، وكم غشي إلى نار سنابكه طارق فأجزل له من قصده القرى، كأنما خلع عليه الدهر حلة ذهب، ووهبته صفرة لونها الراح حين تجلى بالحبب، لو أمكن أول الفجر لما سما في زمنه بالسرحان، ولو كتب اسمه على مقدمة طليعة، قرنها باليمن والأمان.
ومن أدهم كأنما التحف أو دخل تحت ذيل الدجى تخضع عواصي الذرى لطرته وينشق الصباح غيظاً من تحجيله وغرته، كأنما لطمت يد الفجر في إحسائه، وورد عين المجرة فطارت لجبهته نقطة من مائه، فسيح المنتشق، متدرع ملابس القلوب والحدق، كم عنت شوامخ الجبال لجلاله، وقصرت عنه الخيل حتى لم يسابق إلاّ ظل إدباره وإقباله، وخاف سطوته الليل، فجاءه بمثل أنجمه وأنعله بمثل هلاله، ويأتي من صباح تحجيله وليل تكوينه بالعجائب، فكلها من خلفه جنائب". ولا برح سيدنا يجيد في القول ويجود في العمل ويتطول من حفي كرمه ومفيد كلمه، بما لا ترتقي إليه همة الأمل.