للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال أبو عبيدة: كان لعجل بن نجيم فرس جواد فقيل له: إن لكل جواد اسماً فما اسم فرسك؟ فقال: لم أسمه بعد، فقيل له: سمه. ففقأ إحدى عينيه وقال: سميته الأعور فقيل فيه:

رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل

أليس أبوهم عار عين جواده ... فصارت به الأمثال تضرب بالجهل

عار عينه: أي فقأها.

وحكى أبو الفرج الأصبهاني أن النصيب الشاعر كان هجاءً فأهدى الربيع بن عبد الله الحارثي فرساً فقبله ثم ندم خوفاً من المكافأة، فجعل يعيبه ويذكر بطأه وعجزه، فبلغ ذلك النصيب فقال:

اعبت جوادنا ورغبت عنه ... وما فيه لعمرك من معاب

وما بحوادنا عجز ولكن ... أظنك قد عجزت عن الثواب

فأجابه الربيع بقوله:

رويدك لا تكن عجلاً إلينا ... أتاك بما يسوؤك من ثواب

وجدت جوادكم قدماً بطيئاً ... فما لكم لدينا من ثواب

فلما كان بعد أيام، رأى النصيب الفرس تحت الربيع فقال:

أجدت مشهراً في كل أرض ... فعجل يا ربيع مشهرات

يمانية تخيرها يماني ... منمنمة البيوت مقطعات

وجارية أضلت والديها ... مولدة وبيضاً وافيات

فعجلها وأنفذها إلينا ... ودعنا من بنيات الثرات

فأجابه الربيع بقوله:

بعثت بمقرفٍ حطم إلينا ... بطيء الحضر ثم تقول هات

فقال النصيب:

في سبيل الله أودى فرسي ... ثم عللت بأبيات هرج

كنت أرجو من ربيع فرجاً ... فإذا ما عنده لي من فرج

فأمر له بألف درهم. وحكي أنه مات لأبي الحسين الجزار حمار فكتب له بعض أصحابه:

مات حمار الأديب قلت لهم ... مضى وقد فات فيه ما فاتا

من مات في عزه استراح ومن ... خلف مثل الأديب ما ماتا

فأجابه بقوله:

وكم جهول رآني ... أمشي لأطلب رزقا

فقال لي صرت تمشي ... وكنت ماشي ملقى

فقلت مات حماري ... تعيش أنت وتبقى

وسأل بعض الأدباء من أمير جملاً، فأرسل إليه جملاً ضعيفاً هزيلاً، فكتب الأديب إليه: حضر الجمل فرأيته متقادم الميلاد. كأنه من نتاج قوم عاد. قد أفنته الدهور. وتعاقبته العصور. فظننته أحد الزوجين اللذين جعلهما الله تعالى لنوح في سفيتنخ. وحفظ بهما جنس الجمال لذريته. ناحلاً ضيئلاً. بالياً هزيلاً. يعجب العاقل من طول الحياة به. وتأتي الحركة فيه. لأنه عظم مجلد. وصوف ملبد. لو ألقي إلى السبع لأباه. أو طرح إلى الذيب لعافه وقلاه. قد طال لكلاء فقده. وبعد بالمرعى عهده. لم ير العلف إلاّ نائماً. ولا يعرف الشعير إلاّ حالماً. وقد خيرتني بين أن أقنيه فيكون فيه غنى الدهر. أو أذبحه فيكون فيه خصب الرحل. فملت إلى استبقائه لما تعلم من محبتي للتوفير. ورغبتي في التثمير. وجمعي للولد. وإدخاري للغد. فلم أجد فيه مدقعاً لغناه. ولا مستمتعاً لبقاه. لأنه ليس بأنثى فيحمل. ولا فتى فينسل. ولا صحيح فيرعى. ولا سليم فيبقى. فملت إلى الثاني من رأييك. وعملت على الآخر من قوليك. فقلت أذبحه فيكون وظيفة للعيال. وأقيمه رطباً مقام قديد الغزال. فأنشدني وقد أضرمت النار. وحددت الشفار وتشمر الجزار:

أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

وقال: فما الفائدة في ذبحي ولم يبق في الأنفس خافت. ومقلة إنسانها باهت. لست بذي لحم فأصلح للأكل. لأن الدهر قد أكل لحمي. ولا جلدي يصلح للدباغ لأن الأيام مزقت أدمي. ولا صوف يصلح للغزل لأن الحوادث قد جزت وبري. فإن أردتني للوقود فكف بعر أبقى من ناري. ولن تفي حرارة جمري بريحٍ قثاري، فوجدته صادقاً في مقالته. ناصحاً في مشورته. ولم أدر من أي أمر به أعجب. أمن مماطلته الدهر بالبقا. أم من صبره على الضر والبلا. أم قدرتك عليه مع إعواز مثله. أم تأهلك الصديق به مع خساسة قدره. فما هو إلاّ كقائم من القبور. أو ناشر عند نفخ الصور:

ما إن درى ذاك الذميم وقد شكى ... من نيل ممتدح ورمح جواد

هل يشتكي وجعاً به في سرة ... بالسين أم في صرة بالصاد

<<  <   >  >>