للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكتب الشيخ زين الدين الوهراني للأمير عز الدين موسك كتاباً على لسان بغلته يقول فيه: المملوكة ريحانة بغله الوهراني تقبل الأرض بين يدي المولى عز الدين ظهير أمين المؤمنين نجاه الله من حر السعير، وعطر ذكره قوافل العير، ورزقه من القرط والتبن والشعير، ما وسق مئة ألف بعير، واستجاب فيه أدعية الجم الغفير، من الخيل والبغال والحمير، وتنهي ما تقاسيه مواصلة الصيام وسوء القيام، والتعب بالليل والدواب نيام، وقد أشرفت المملوكة على التلف وصاحبها لا يحتمل الكلف، ولا يوقن بالخلف، ولا يقول بالعلف، لأنه في بيته مثل المسك والعبير، والطريف الكبير، أقل من الأمانة في الأقباط، ومن العقل في رأس قاضي سنباط، فشعيره أبعد من الشعرى العبور، لا وصول إليه ولا عبور، وقرطه أعز من قرط مارية، لا تخرجه صدقة ولا هبة ولا عارية، والتبن أحب إليه من الابن، والجلبان عنده أعز نم دهن البان، والقصيم أعز من الدر النظيم، والفصة أجمل من سنابك الفضة، وأما الفول فمن دونه ألف باب مقفول، وما يهون عليه أن يعلف الدواب، إلاّ بعيوب الآداب وفقه اللباب والسؤال والجواب، وما عند الله من الثواب، ومعلوم يا سيدي أن البهائم لا توصف بالحلوم، ولا تعيش بسماع العلوم، ولا تطرب بشعر أبي تمام، ولا تعرف الحارث بن همام، ولا سيما البغال، تشتغل في جميع الأشغال، سلة من القصيل، أحب إليها من كتاب البيان والتحصيل، وقفة من الدريس، أحب إليها من فقه محمد بن إدريس، لو أكل البغل كتاب المقامات مات، ولو لم يجد إلاّ كتاب الرضاع ضاع، ولو قيل له أنت هالك، إن لم تأكل موطأ مالك، ما قبل ذلك، وكذلك الجمل، لا يتغذى بشرح أبيات الجمل، وحزمة من الكلا، أحب إليه من شعر أبي العلا. وليس عنده بطيب، شعر أبي الطيب، وأما الخيل فلا تطرب إلا لسماع الكيل. ولو أكلت كتاب الذيل. ماتت بالنهار قبل الليل، والويل لها ثم الويل، ولا تسغني الأكاديش عن أكل الحشيش، بما في الحماسة من شعر أبي الجريش، وإذا أطعمت الحمار شعر ابن عمار حل به الدمار، وأصبح منفوخاً كالطبل على باب الإصطبل، وبعد هذا كله فقد راح صاحبها إلى العلاف، وعرض عليه مسائل الخلاف، وطلب من تبنه خمس قفاف، فقام إليه بالخلاف، فخاطبه بالتقعير، وفسر عليه آية البعير، وطلب منه ويبة شعير، فحمل على عياله ألف بعير، وأكثر له من الشخير والنخير، فانصرف الشيخ مكسور القلب، مغتاظاً من السلب، وهو أنحس من ابن بنت الكلب، فالتفت إلى المسكينة، وقد سلبه الله ثوب السكينة، وقال لها: إن شئت أن تكدي فكدي، لا ذقت شعيراً ما دمت عندي، فبقيت المملوكة حائرة، لا قائمة ولا سائرة، فقال لها العلاف لا تجرعي من خباله، ولا تلتفتي إلى أسباله. ولا تنظري إلى نفقته، ولا يكون عندك أحسن من عنفقته، هذا الأمير عز الدين سيف المجاهدين أندى يداً من الغمام، وأبهى من البدر ليلة التمام، يرثي للمحروب ويفرج عن المكروب، ولا يرد قائلاً، ولا يخيب سائلاً، فلما سمعت المملوكة هذا الكلام، جذبت الزمام، ورفست الغلام، وقطعت الحزام، وفتحت اللجام، حتى طرحت خدها على الأقدام، ورأيك أعلى، والسلام.

وكان لأبي دلامة بغلة جامعة لعيوب الدواب كلها، وكانت أشوه الدواب خلقاً في منظر العين وأسوأها خلقاً في مخبرها، وكان إذا ركبها تبعه الصبيان يتضاحكون به، وكان يقصد ركوبها في موكب الخلفاء والكبراء ليضحكهم بشماسها، ونظم فيها قوله:

أبعد الخيل أركبها كراماً ... وبعد الفره من خضر البغال

رزقت بغيلة فيها وكال ... وليته لم يكن غير الوكال

رأيت عيوبها كثرت وليست ... وإن كثرت ثم من المقال

ليحصي منطقي وكلام غيري ... عشير خصالها شر الخصال

فأهون عيبها أني إذا ما ... نزلت وقلت أمشي لا تبالي

تقوم فما تبت هناك شبراً ... وترمحني وتأخذ في قتالي

وإني إن ركبت أذيت نفسي ... بضرب باليمين وبالشمال

وبالرجلين أركبها جميعاً ... فيالك في الشقاء وفي الكلال

أتاني خائب يستام مني ... عريق في الخسارة والضلال

وقال تبيعها؟ قلت ارتبطها ... بحكمك إن بيعي غير غال

فأقبل ضاحكاً نحوي سروراً ... وقال أراك سهلاً ذا جمال

هلم إلي يخلو بي خداعاً ... وما يدري الشقي لمن يخالي

<<  <   >  >>