يرى الباحث بعد التقصي أنه قد تضم البلدة الواحدة نحاة من منازع مختلفة، يطغى عليها أحيانا مذهب أهل البصرة، وأحيانا مذهب الكوفة، تبعا لنزعة العالم ذي الأثر فيها. فهذه "حلب" من مدن الشام ضمت عالمين مختلفي النزعة كل الاختلاف في زمن واحد: ابن جني رأس مدرسة القياس الذي كان للمذهب البصري إمامه الأعظم، وابن خالويه الكوفي المنزع صاحب كتاب "ليس في كلام العرب"، الذي اتبع فيه السماع نافيا من اللغة ما جوزه "فلسفة" نحاة البصرة، وبعدهما كان في الشام المعري الذي كان واسع الرواية سماعيا إلى أبعد حدود السماع، يضيق بنحو البصرة الذي كان في أيامه طافحا بالجدل والقياس والتعليل١. وهذه النزعة ظاهرة في كتبه كل الظهور، وحسبك أن تلم برسالة الملائكة لترى مبلغ عنايته بالرواية والسماع، أو أن تمعن في "رسالة الغفران" لترى نقمته على البصريين خاصة من حيث
١ انظر في ذلك بحثا قيما للمرحوم الأستاذ إبراهيم مصطفى نشره في "المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري" من مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق ص٣٦٢-٣٧٤.