أنهم بتعميم هذه القواعد قد أهدروا شيئا من اللغة, فهم حين يختارون بين اللغتين أشيعهما وأقربهما إلى القياس، قد قاموا بخير ما يمكن أن يقوم به من يريد حفظ اللغة، ومع أن الكوفيين جمعوا ما هب ودب ولم يفرطوا شيئا مما وصل إليهم، لم يدعوا ولم يدع لهم أحد أنهم لموا اللغة من أطرافها وأحصوها، وإنا نجد عندهم كل لغات العرب بلهجات قبائلها؛ بل نحن أحرى أن نجد عند البصريين المنظمين المنسقين ما لا نجده عند غيرهم، فالنظام يحفظ في نسق ما لا يستطيع غيره أن يحفظه.
أما الكوفيون فلم يكن لهم أصول يبنون عليها غير ما أخذوه عن أساتذتهم البصريين ولم يحسنوه، ثم جعلوا من عدم المنهج في سماعهم منهجا خاصا لهم، فسمعوا الشاذ واللحن والخطأ، وأخذوا عمن فسدت لغته من الأعراب وأهل الحضر؛ فلما اقتضتهم المنافسة أن يكون لهم قياس كما لأولئك بنوه على ما عندهم مما يتنزه عن روايته البصري، ثم جعلوا كل شاذ ونادر قاعدة لنفسه، فانتشرت عليهم قواعدهم ولم يعد لها ما يمسكها من نظام أو منطق، وضاعت الغاية من وضع النحو فلم يعد -في أيديهم- أداة تيسير لتعلم العربية، بعد أن أصبحت له قواعد بعدد ما جمعوا من شواهد، وهذا شيخهم وكبيرهم الكسائي:"كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة، والضرورات، فيجعل ذلك أصلا ويقيس عليه حتى أفسد النحو"١ وحتى ضاق به وبقياسه
١ إرشاد الأريب ١٣/ ١٨٣. ويقول ابن درستويه: "كان الكسائي يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة, فيجعله أصلا ويقيس عليه؛ فأفسد النحو بذلك" بغية الوعاة ص٢٣٦.