الشرعي في مطلع هذا القرن:"كانت اللغة العربية مضطهدة في عهد عباس الأول إلى حد أن مَن تكلم بها من طلبة المدارس الحربية توضع في فيه العُقْلة التي توضع في فم الحمار حينما يُقَص، ويبقى كذلك نهارًا كاملًا عقوبة له على تحريك لسانه بلغة القرآن في أثناء فسحته".
وطبيعي ألا تنهض لغتنا حينئذ، وأن تظل على عهودها السابقة جامدة راكدة ضيقة مثقلة بالسجع وما يرتبط به من قيود البديع وأغلاله. غير أنه أخذت ناشئة جديدة في الظهور، وهي ناشئة حذقت اللغات الأجنبية، وأخذت تقرأ في آدابها، وتفهم ما تقرأ، وتتذوقه، وتستمتع به.
وخير مَن يمثل هذه الناشئة رفاعة الطهطاوي الذي تعلم في الأزهر وتخرج فيه، ورافق البعثة الكبرى الأولى لمحمد علي إمامًا لها. ولم يكتفِ بعمله؛ بل أقبل على تعلم اللغة الفرنسية، حتى أتقنها. وفي أثناء إقامته بباريس أخذ يصف الحياة الفرنسية من جميع نواحيها المادية والاجتماعية والسياسية في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". وعاد إلى مصر فاشتغل بالترجمة وعين مديرًا لمدرسة الألسن، وأخذ يترجم مع تلاميذه آثارًا مختلفة من اللغة الفرنسية.
وكان ذلك بدء نهضتنا الأدبية المصرية؛ ولكنه كان بدْأً مضطربًا؛ فإن رفاعة وتلاميذه لم يتحرروا من السجع والبديع؛ بل ظلوا يكتبون بهما المعاني الأدبية الأوربية. ومن الغريب أنهم كانوا يقرءونها في لغة سهلة يسيرة، ثم ينقلونها إلى هذه اللغة الصعبة العسيرة المملوءة بضروب التكلف الشديد، فتصبح شيئًا مبهمًا لا يكاد يُفهم إلا بمشقة.
ونحن الآن لا نقرأ ما كتبته هذه المدرسة الأولى في تاريخ أدبنا حتى نشعر بضيق؛ لأنها لا تخاطبنا مباشرة؛ وإنما تخاطبنا من وراء حجاب صفيق، ويظهر أنها لم تكن تستطيع أن تُسقط هذا الحجاب؛ إذ كان شائعًا بين جميع الأدباء المصريين، وكانوا يحرصون عليه، ويتعصبون له؛ بل كانوا لا يستطيعون أن يعبروا عن أي شيء إلا به، وكأنما جمدت ألسنتهم عنده، فهي لا تستطيع أن تتحول عنه.