المالية التي سار عليها هذا الحاكم أخذت تتضح للجميع، فقد فُرضت على البلاد الرقابة المالية والمراقبة الثنائية.
لذلك كله بدأت الجذوة الوطنية تتقد في النفوس، وكان جمال الدين من أكبر من أمدوا نارها بالحطب الجزل من الخطب والمحاضرات في المقاهي وفي منزله. وكان يُلقي في هذه المحاضرات دروسًا في الكلام والتصوف والفلسفة الإسلامية، فتعرف عليه محمد عبده، وأعجب به جمال الدين إعجابًا شديدًا، حتى أصبح أهم مريديه. لقد كان مريدًا للشيخ درويش، فدفعه إلى اجتياز العقبات الأولى التي صادفته في أول تعلمه بطنطا، واليوم يصبح مريدًا لفيلسوف إسلامي كبير، يعد من حيث تأثيره في العالم الإسلامي في أثناء القرن الماضي في صف الأحرار العالميين؛ إذ لم يترك بلدًا إسلاميًّا حل فيه إلا ألقى في أرضه البذور لثورات وطنية عارمة على حكامه المستبدين الفاسدين.
ويُعْجَبُ الفيلسوف الكبير -أو بعبارة أدق: الثائر الكبير- بالشيخ الصغير محمد عبده؛ إذ وجد فيه ذكاء نادرًا، وروحًا متحمسة للإصلاح في جميع الميادين السياسية والدينية والاجتماعية التي كان يصول فيها ويجول، ودفعه كغيره من تلاميذه ومريديه إلى الكتابة في هذه الشئون بالصحف؛ حتى يتنبه الناس ويفيقوا من غفلتهم وسباتهم الطويل. وكتب محمد عبده في صحيفة الأهرام، وكانت أسبوعية، فلفت الأنظار إليه وإلى آرائه الإصلاحية.
وتخرج في الأزهر سنة ١٨٧٧، فكان يلقي فيه بعض الدروس في المنطق والعقائد، وألف حينئذ حاشية على شرح لكتاب يسمى "العقائد العضدية"، وهي تدل على تضلعه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، ووالى مقالاته في الأهرام، وأخذ يدرس لطلابه كتاب "تهذيب الأخلاق" لابن مسكويه، ويقرأ في بيته كتابًا مترجمًا في "تاريخ تمدن الممالك الأوربية". ثم عين مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم وللعربية في مدرسة الألسن، وكان يدرس في الأولى "مقدمة ابن خلدون".
وتطورت الأمور فعُزِلَ إسماعيل، ورأت بطانة توفيق أن يخرج جمال الدين