للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالحضارة الأوربية، وأخذ كل شيء فيها يصبطغ صبغة حقيقية بتلك الحضارة، فمن ناحية السياسة والتشريع أخذتْ مصر بنظام نيابي وقضائي مشبه للنظام الفرنسي، ومن ناحية التعليم أنشئت المدارس العالية المختلفة، وتأسَّس كثير من المدارس الابتدائية والثانوية، كما تأسست مدرسة للبنات، فالتعليم أصبح غاية لنفسه، ولم يعد يراد به الجيش؛ وإنما أصبح يراد به الشعب. وأخذت مصر في تحضر واسع؛ فتأسست الأوبرا، وأنشأ يعقوب صنوع فرقة ثمثيلية كان يترجم لها، ويؤلف تمثيليات مختلفة، وهي إن تكن بالعامية فإنها تدل على أن مصر أخذت في التحول؛ بل أخذت تبدأ دورة حضارية جديدة.

واشتد الاتصال بيننا وبين أوربا منذ فُتحت قناة السويس، فالأوربيون يفدون على مصر يؤسسون بها الشركات والمصارف، ونحن نكثر من البعوث إلى أوربا لنطلع على ثقافات القوم الكبرى التي مكنتهم من السيطرة على الحياة والمتعة بها، ويعود المبعوثون إلينا وقد حملوا لنا أزوادًا من الحضارة الأوربية.

وأحسَّ القائمون على الثقافة والتعليم أن الأزهر في عزلة عن هذه الحركة، وأنه لا يقوم بواجبه في تعليم اللغة العربية وتبسيطها وعرض آثارها عرضًا حسنًا على هذا الشباب المدني، فقد أصاب لغتنا فيه من الجمود ما جعلها غير صالحة لتتحمل أعباء هذه الثقافة الأوربية من ترجمة وتأليف. فأنشأ علي مبارك مدرسة دار العلوم؛ لتنهض في تعليم لغتنا بما لم يستطع الأزهر النهوض به.

فإنشاءُ دار العلوم إنما هو رمز إلى ما كانت تبتغيه مصر حينئذ من المزاوجة بين الآداب الأوربية والآداب العربية، فإنها حين رأت قصور آدابنا عن تأدية آثار الفكر والشعور الغربيين أداء واضحًا صريحًا بسبب ما علق بها من أعشاب السجع والبديع انبرت تُغيِّر الوسائل التعليمية لتلك الآداب، وأنشأت هذه المدرسة التي نهضت بتعليم لغتنا وتبسيطها حتى تستطيع أن تحمل آثار الغرب الرائعة في العلم والأدب.

وكان ما قدمنا سببًا في أن نتهيأ حقًّا للتأثر بالآداب الغربية، فمن جهة أخذنا نمرن لغتنا على أن تفي بما نريد التعبير عنه من ألوان الفكر وصور الشعور،

<<  <   >  >>