للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن يتكلفوا هذه الأثمان.

ونتج عن ذلك أن الأدب والعلم في الأمم القديمة -ومنها الأمة العربية- كان محدودًا بطائفة خاصة؛ بل كان محتكرًا لها محصورًا فيها. ومن ثَم كانت الحياة العقلية والأدبية ضيقة الحدود، فهي موقوفة على فئات قليلة، وقلما تجاوزتها إلى الشعب، فكثرة الشعب كانت جاهلة لا تدري من أمور الثقافة شيئًا.

فلما ظهرت المطبعة عملت على نشر الكتب، وأصبح الكتاب الواحد يطبع منه مئات النسخ بل آلافها، فأتيح لجمهور كبير من الشعب أن يطلع عليه ويفيد منه، أولًا لأنه يجده، وثانيًا لأنه يكلفه ثمنًا بخسًا؛ وبذلك اتسع تبادل الأفكار في العلوم والفنون والآداب؛ بل لقد أصبحت حقًّا مشاعًا للجميع، ولم تعد حبيسة على طائفة بعينها. وعلى هذا النحو ألغت المطبعة في أوربا احتكار الأفكار، وجعلتها من منافع الشعوب العامة، وبعبارة أخرى: ألغت أرستقراطية الأدب والعلم، وجعلتهما ديمقراطيَيْنِ، فهما من حقوق جميع الأفراد.

وفُتحت في كل مكان المكاتب لبيع الكتب ونشرها، كما فتحت دور الكتب العامة أمام المتعلمين ليقرءوا فيها ما لا يقدرون على شرائه. وكل هذا حدث في مصر مع ظهور المطبعة في القرن الماضي؛ فقد أنشأ علي مبارك سنة ١٨٧٠ دار الكتب المصرية، وزودها بالكتب في مختلف الآداب والعلوم والفنون، ولم يكتفِ بالكتب العربية؛ بل ضم إليها طائفة كبيرة من كتب اللغات الغربية، وحدَّد للدار أوقاتًا في الصباح والمساء يغدو ويروح إليها الشعب للقراءة والاطلاع، ووضع نظامًا لاستعارة الكتب خارجها؛ وبذلك كانت -ولا تزال- جامعة شعبية كبرى للثقافة والاطلاع العقلي الخصب.

ومما زاد في أهمية الدور الذي لعبته المطبعة عندنا في تثقيف الشعب اتساع دائرة التعليم منذ عصر إسماعيل، فكثُر الجمهور القارئ الذي تخاطبه، والذي يمكن أن يفيد منها ومن آثارها في صَقْل ذهنه وعقله.

وكان مما مكَّن للمطبعة من ذلك عندنا وفي الخارج سهولة المواصلات في العصر الحديث؛ فإنها قربت المسافات بين الأدباء وقرائهم؛ بل بين الشعوب

<<  <   >  >>