للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويظله عهد توفيق، ويتولى الوزارة، فلا يخمد ما في نفسه من آمال؛ بل تزداد توهجًا واشتعالًا، وينضم إلى عرابي مع غيره من الثوار منشدًا مثل قوله:

فيا قوم هبوا إنما العمر فرصة ... وفي الدهر طرق جمة ومنافع

أرى أرؤسًا قد أينعت لحصادها ... فأين ولا أين السيوف القواطع١

وتخفق الثورة، ويَصْلى البارودي نار أعدائها بعد الإخفاق، فيُحاكم ويُنفى إلى سرنديب، ويتحول إلى دورة بائسة في حياته، ويتحول معه شعره، فيفيض بالألم والشكوى والشوق والحنين إلى وطنه، ويرثي من يموت من أهله، وكأنه يرثي نفسه. ومرثيته في زوجه الأولى:

أيد المنون قدحت أي زناد ... وأطرت أية شعلة بفؤادي٢

سيل لاذع من الحزن والشجى والتفجع المرير. ويعود إلى وطنه، فيفرح فرحة الطائر ينطلق من قفصه، وينشد قصيدته:

أبابل مرأى العين أم هذه مصر ... فإني رأى فيها عيونًا هي السحر

وعلى هذه الشاكلة كان البارودي يصور نفسه وبيئته ووطنه وما مر به من أحداث تصويرًا صادقًا. ومن تمام هذا الصدق فيه شعوره الدقيق بعصره لا بأحداثه فحسب؛ بل أيضًا بمخترعاته، وكان يُجريها في تشبيهاته واستعاراته كقوله في الغزل:

وسرت بجسمي كهرباءة حسنه ... فمن العروق به سلوك تخبر

وبما قدمنا كله كان البارودي أول المجددين في الشعر العربي الحديث، وهو تجديد كان يقوم عنده على أصلين: بعث الأسلوب القديم في الشعر؛ بحيث تعود إليه جزالته ورصانته، وتصوير الشاعر لنفسه وقومه وبيئته وعصره تصويرًا مخلصًا صادقًا.


١ أينعت: أدركت وحان قطافها.
٢ المنون: الموت، والزناد: حجر تقدح به النار.

<<  <   >  >>