لأن أولئك الفقهاء المفترين على الله قد أوهموهم أن المأكولات والمشروبات إنما تحل للناس بأن يستعملوا فيها هذا العلم الذي نسبوه إلى الله وإلى موسى، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شرفهم الله بهذا وأمثاله من الترهات التي أفسدوا بها عقولهم. وصار أحدهم ينظر إلى من ليس على ملته كما ينظر إلى سائر الحيوانات التي لا عقل لها، وينظر إلى المآكل التي تأكلها الأمم كما ينظر الرجل إلى العذرة أو إلى صديد الموتى وغير ذلك من الأشياء القذرة التي لا يسوغ لأحد أكلها. فهذا هو الأصل في بقاء هذه الطائفة على أديانها لشدة مباينتها لغيرها من الأمم، ولأنهم ينظرون إلى الناس بعين النقص والازدراء إلى أبعد غاية.
وأما الطائفة الأولى -وهم القراءون- فأكثرهم خرج إلى دين الإسلام أولا فأولا إلى أن لم يبق منهم إلا نفر يسير؛ لأنهم أقرب إلى الاستعداد لقبول الإسلام؛ لسلامتهم من محاولات فقهاء الربانيين أصحاب الافتراء الزائد، الذين شددوا على جماعتهم الإصر.
فقد تبين مما ذكرنا أن الحاخاميم هم الذين شددوا على هذه الطائفة دينهم، وضيقوا عليهم المعيشة والإصر. قصدوا بذلك مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم حتى لا يختلطوا بهم، فيؤدي اختلاطهم بهم إلى خروجهم من دينهم.
والسبب الثاني في تضييق الإصر عليهم: أن اليهود مبددون في شرق البلاد وغربها، فما من جماعة منهم في بلدة إلا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة، يظهر لهم الخشونة في دينه والمبالغة في التورع والاحتياط، فإن كان من المتفقهين فهو يشرع في إنكار أشياء عليهم، ويوهمهم التنزه عما هم فيه، وينسبهم إلى قلة الدين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخهم وأهل بلدهم، ويكون في أكثر ذلك