للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيح غُدُوها شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَين القِطْر وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْن يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزغ مِنْهُم عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَاب وَقُدُورٍ رَاسِيَات اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرَاً وقَلِيل مِن عِبَادِيَ الشَّكُور فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّة الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَو كَانُوا يَعْلَمُون الغَيْبَ مَا لَبِثُوا في العَذَابِ المُهِين} ١.

وكذلك ما ذكره من قول العفريت له: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} ٢.

فهذه الطاعة من التسخير: بغير اختيارهم في مثل هذه الأعمال الظاهرة العظيمة، ليس مما فعلته بأحد من الإنس، وكان ذلك بغير أن يفعل شيئاً، مما يهوونه؛ من العزائم، والأقسام، والطلاسم الشركية٣؛ كما يزعم الكفار أنّ سليمان سخّرهم بهذا، فنزّهه الله من ذلك٤، بقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا


١ سورة سبأ، الآيات ١٢-١٤.
٢ سورة النمل، الآية ٣٩.
٣ تقدّم التعريف بها، انظر ص ٢٧٠ من هذا الكتاب.
٤ روى الطبري رحمه الله بسنده إلى ابن إسحاق قال: "عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليهما السلام، فكتبوا أصناف السحر....، ثم دفنوه تحت كرسيه، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس، وتعلّموه، وعلّموه، فليس في أحد أكثر منه في اليهود. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمانَ بن داود، وعدّه فيمن عدّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يزعم أن سليمان بن داود كان نبياً، والله ما كان إلا ساحراً. فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ... } الآية.
تفسير الطبري ١٤٤٦. وانظر: أسباب النزول للواحدي ص ٢١-٢٢. وتفسير ابن كثير ١١٣٢-١٣٦.
وقد فصّل شيخ الإسلام رحمه الله القول في هذه المسألة في موضع آخر، بعد أن ذكر الطلاسم الشركية، والعزائم، والأقسام التي يستخدمها الجنّ، فقال: "والذين يستخدمون الجن بهذه الأمور يزعم كثير منهم أن سليمان كان يستخدم الجنّ بها، فإنّه قد ذكر غير واحد من علماء السلف أن سليمان لما مات كتبت الشياطين كتبَ سحر وكفر وجعلتها تحت كرسيه، وقالوا: كان سليمان يستخدم الجنّ بهذه، فطعن طائفة من أهل الكتاب في سليمان بهذا، وآخرون قالوا: لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان. فضلّ الفريقان؛ هؤلاء بقدحهم في سليمان، وهؤلاء باتباعهم
السحر، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ..} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . بيَّن سبحانه أن هذا لا يضرّ ولا ينفع، إذ كان النفع هو الخير الخالص أو الراجح، والضرر هو الشر الخالص أو الراجح، وشر هذا إما خالص، وإما راجح) . مجموع الفتاوى ١٩٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>