للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان إذا تكلم يؤد السامع لو أن كله ألسن، ولا يبقى فيه جارحة إلا تمنت أنها أذن، صحبته كريمة، وعشرته جميلة، ودعابته لطيفة، ومحاضرته شريفة، وقريحته سديدة، وعارضته شديدة، ومعانيه رقيقة، و"مبانيه وثيقة، يتناثر الدر من فلق فيه، وكأن هذه الأبيات قد أنشدت فيه:

حكم على أهل العقول يبثها ... متقونة الأوضاع والأحكام

ويريك في ألفاظه وكلامه ... سحر العقول وحيرة الأفهام

كم أعربت ألفاظه عن حاله ... يوماً فأعجب منطق الإعجام

أو كأنه هو المقول فيه حيث كان رحمه الله يشبهه ويضاهيه:

أحاديثه مثل زهر الرياض ... فهل كان إذ ذاك روضاً جميعا

لطيف رقيق حواشي الطباع ... فلو جسمت لاستحالت نسيما

مما قلت أيضاً في ترجمته: مع قوة حافظة وفصاحة لهجة، تظنه لولا ما هو عليه من الفضل والأدب أنه قد ربى في البوادي مع خلص العرب، يحفظ من نوادر الجاهليين وما كان لهم من الأيام والأخبار ما لو جمع في سفر لكان من أعظم الأسفار، وأما معرفته باللغة وغريبها وفصيح تراكيبها وأساليبها فذاك الذي اعترف له به المكابر، وأذعن له الأصاغر والأكابر، هذا مع تواضع ولين جانب، للأقارب الأدنين والأجانب، وقد ضم مع ذلك من الأخلاق أكرمها وألطفها، ومن الأوصاف أفضلها وأشرفها.

من لي بإنسان إذا أغضبته ... ورضيت كان الحلم رجع جوابه

وإذا أصر على الذنوب جليسه ... وسطا يكون العفو مر عقابه

وإذا ظمئت إلى الشراب رويت ... من ألفاظه وسكرت من آدابه

وتراه يصغي للحديث بقلبه ... وبسمعه ولعله أدرى به

وإذا تفاخرت الرجال بماجد ... فاقت شمائله على أترابه

ولم يزل يتقلب في المناصب، ويتنقل في منازل المراتب، حتى أدت به خاتمة المطاف، وفاتحة النعم والألطاف، إلى أن تقلد إفتاء البصرة الفيحاء، ونشر

<<  <  ج: ص:  >  >>