أسمعه علي فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتخيها فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله، فكان كما قال.
وقال الحافظ أبو حفص: كان ابن تيمية إذا شرع في الدرس يفتح الله عليه أسرار العلوم وغوامض ولطائف ودقائق وفنون ونقول واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء، ونص بعضها وتبيين صحتها، وتزييف بعضها، وإيضاح حجته، واستشهاد بأشعار العرب، وهو مع ذلك يجري كما يجري التيار، ويفيض كما يفيض البحر، ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ كالغائب عن الحاضرين مغمضاً عينيه، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب ويحير الأبصار والعقول.
ومن أعجب الأشياء في حقه أنه لما سجن صنف كتباً كثيرة، وذكر فيها الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وأسماء المحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهم، وعزا كل شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه، وذكر أسماء الكتب التي ذكر ذلك فيها، وفي أي موضع هو منها، كل ذلك بديهة من حفظه، لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه، ونقبت واعتبرت فلم يوجد بحمد الله فيها خلل ولا تغيير.
وأما معرفته بصحيح المنقول وسقيمه فإنه في ذلك من الجبال التي لا ترتقي ذروتها ولا ينال سنامها، فقلَّ إن ذكر له قول إلا وقد أحاط علمه بمنكره وذاكره وناقله، أو راو إلا وقد عرف حاله من جرح وتعديل بإجمال وتفصيل.
وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه به من استنباط المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية وإبراز الدلائل منها على المسائل وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه وإيضاح المخصص للعام والمقيد للمطلق والناسخ للمنسوخ وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها وما يترتب عليها وما يحتاج فيه إليها فمما لا يوصف، حتى كان إذا ذكر آية أو حديثاً وبيّن معانيه وما أريد به يعجب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه، ولقد سئل يوماً عن حديث: " لعن