يميل يمنة ويسرة، وكان إذا رأى في طريقه منكراً أزاله، أو سمع بجنازة سارع للصلاة عليها، أو تأسف على فواتها، ولا يزال تارة في إفتاء الناس وتارة في قضاء حوائجهم حتى يصلي الظهر مع الجماعة، ثم كذلك بقية يومه، وكان مجلسه عامّاً للكبير والصغير والجليل والحقير، ويرى كل منهم في نفسه أنه لم يكرم أحداً بقدره، ثم يصلي المغرب وتقرأ عليه الدروس، ثم يصلي العشاء، ثم يقبل على العلوم إلى أن يذهب طويل من الليل، وهو في خلال ذلك كله الليل والنهار لا يزال يذكر الله تعالى ويوحده ويستغفره.
وأما ورعه؛ فكان من الغاية التي ينتهى إليها في الورع أن الله تعالى أجراه مدة عمره كلها على الورع، فإنه ما خالط الناس في بيع ولا شراء، ولا معاملة ولا تجارة، ولا مشاركة، ولا مزارعة، ولا عمارة، ولا كان ناظراً أو مباشراً لمال وقف، ولم يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان، ولا أمير، ولا تاجر، ولا كان مدّخراً ديناراً ولا درهماً، ولا متاعاً ولا طعاماً، وإنما كانت بضاعته مدة حياته وميراثه بعد وفاته رضي الله تعالى عنه العلم اقتداء بسيد المرسلين، فإنه قال:"إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر"١.
وأما زهده؛ فقد جعله الله شعاراً عن صغره، ولقد اتفق كل من رآه خصوصاً من مال إلى ملازمته أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا، واشتهر عنه ذلك حتى لو سئل عامي من أهل بلد بعيد: من أزهد أهل هذا العصر وأكملهم في رفض فضول الدنيا وأحرصهم على طلب الآخرة؛ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية، وما اشتهر بذلك إلا لمبالغته في الزهد مع تصحيح النية، لم يسمع أنه رغب في زوجة حسناء، ولا سرية حوراء، ولا حرص على دينار ولا درهم، ولا رغب في دواب ولا نعم، ولا ثياب فاخرة ولا حشم، ولا زاحم في طلب الرياسات، ولا رؤي ساعياً في تحصيل المباحات، مع أن الملوك والأمراء والتجار والكبراء كانوا طوع