للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المنون، وهو علي لينظر صحفه، ويدخر تحفه، حتى تستهدي أطراف البلاد طرفه، وتستطلع بقايا الأقاليم شرفه، إلى أن خطفه آخر مرة من سجنه عقاب المنايا، وجذبته إلى مهواتها قرارة الرزايا، وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم، وطبع على قلبه منه طابع الألم، فكان مبدأ مرضه ومنشأ برضه، حتى نزل قفار المقابر، وترك فقار المنابر، وحل بساحل ربه وما يحاذر، واختار راحة قلبه من اللائم والعاذر، فمات وما مات لا بل حيّ، وعرف قدره لأن مثله ما رُئي، ما بري على المآثر إلى أن ضريحه أحله، وأتاه بشير الجنة يستعجله، فانتقل إلى الله والظن به أنه لا يخجله، وكان يوم دفنه يوماً مشهوداً، ووقتاً معدوداً، ضاقت به البلد وظواهرها، وتذكرت به أوائل الرزايا وأواخرها، ولم يكن أعظم منها منذ مئين من السنين جنازة رفعت على الرقاب، ووطئت في زحامها الأعقاب، وصار مرفوعاً على الرؤوس متبوعاً بالنفوس، تحدوه العبرات، وتتبعه الزفرات، وتقول له الأمم لا فقدت من غائب، ولأقلامه النافعة لا أبعدكن الله من شجرات، كان أمة وحده، وفرداً حتى نزل لحده، ثم قال:

أهكذا في الدياجي يحجب القمر ... ويحبس النوء حتى يحبس المطر

أهكذا تمنع الشمس المنيرة عن ... منافع الأرض أحيانا فتستتر

أهكذا السيف لا تمضي مضاربه ... والسيف في الفتك ما في عزمه خور

أهكذا القوس ترمى بالعراء وما ... تصمى الرمايا وما في باعها قصر

أهكذا يترك البحر الخضم ولا ... يلوى عليه وفي أصدافه الدر

أهكذا بتقي الدين قد عبثت ... أيدي العدى وتعدي نحوه الضرر

إلى ابن تيمية ترمى سهام أذى ... من الأنام ويدمى الناب والظفر

بر السوابق ممتد العبادة لا ... يناله ملل فيها ولا ضجر

ولم يكن مثله بعد الصحابة في ... علم عظيم وزهد ماله خطر

طريقة كان يمشي قبل مشيته ... بها أبو بكر الصديق أو عمر

فرد المذاهب في أقوال أربعة ... جاؤوا على أثر السباق وابتدروا

لما بنوا قبله علياً مذاهبهم ... بنى وعمر منها مثل ما عمروا

<<  <  ج: ص:  >  >>