قال: وقال لي بعض شيوخ الرَّمْلة: قدم علينا أبو عبيد متوجهاً إِلَى قضاء مصر، فصادف ابن الخلنجي، فكان جماعة من أهل العلم ينقطعون إِلَيْهِ، فكلموه فِي أن يسلم عَلَى أحمد بن محمد بن بسطام عامل الشام، وَكَانَ عظيم الرياسة، يقوم عن يمينه وعن شماله نحو مائة حاجب. فقال أبو عبيد: مَا لي عنده حاجة!. فقالوا لَهُ: إن محمد بن العباس الجمحي قاضي الرملة، يركب إِلَيْهِ فِي كل يوم. فلم يزالوا بِهِ حَتَّى ركب إِلَيْهِ متخففاً، فدخل إِلَيْهِ فِي هيئة بذة، وَلَمْ يكن وجهه حسناً، بل كَانَ كثير الجدري. فرأى الجمحي جالساً عَلَى يمين ابن بسطام فِي هيئة حسنة، فسلم أبو عبيد وجلس عن يساره وابن بسطام يكتب فِي رقعة. فلم يزد ابن بسطام أبا عبيد عَلَى قوله، وعليكم السلام، بل استمر في كتابته. فجلس أبو عبيد جلسة خفيفة ثُمَّ نهض. فقال ابن بسطام للجمحي: من هَذَا؟ قال هَذَا قاضي مصر. فقال ابن بسطام والله مَا يدري هَذَا (أَيْشٍ تولى، ولا يَدري من ولاّه أَيْشٍ ولاّه!) .
فبلغ ذَلِكَ أبا عبيد فعاد فِي يوم آخر إِلَى مجلس ابن بسطام. فلما دخل وجد ابن بسطام يكتب. فسلم وجلس أيضاً فأخذ أبو عبيد فِي الكلام، فسمع ابن بسطام مَا أدهشه، فأغلق الدواة واستدار إليه، وبادر الغلمان بمخدة فوضعوها خلفه، وصار الجمحي خلف ابن بسطام.
واستمر أبو عبيد فِي الخوض فِي كثير من العلوم والفنون، حَتَّى قال لَهُ ابن بسطام: أيد الله القاضي. أقل استحقاق القاضي أن يكون قاضي الدنيا كلها، ولقد ظلمه من وَلَّى معه غيره. فلما عزم القاضي عَلَى القيام، قام ابن بسطام فأخذ بيده ومشي معه حَتَّى ركب. واستمر قائماً حَتَّى غاب القاضي عن عينه. ثُمَّ كَانَ ابن بسطام يصنع بِهِ ذَلِكَ.
فلما دخل مصر عاملَه بذلك. وإذا اتفق أن يحضر ابن بسطام
مجلس القاضي، يرسل أحد حجابه فيضع يديه عَلَى ركبتي القاضي يمنعه من القيام فإذا رمقه القاضي قال لَهُ: مَا أستطيع مخالفة الأمر. فيدخل ابن بسطام ويجلس بجانب القاضي من غير أن يتمكن من القيام لَهُ، وتبعه عَلَى هذا الفعل تَكِين أمير مصر. حَتَّى كَانَ إِذَا جاء إِلَى مجلس القاضي فلم يجده فِي مجلسه، يجلس دون مرتبته حَتَّى يجيءَ القاضي فيقوم لَهُ.