فقال أبو عبيد: هؤلاء شهود ثقات. ثُمَّ قرأ الرقعة وقال: اللهم اجمع بينهما عَلَى رضاك، ثُمَّ رمى إليّ الرقعة فإذا فِيهَا:
عَفَا الله عن عبد أعان بدعوة ... خليلين كانا دائمين عَلَى الودِّ
إِلَى أن وشي واشي الهوى بنميمة ... إِلَى ذَاكَ من هَذَا فحال عن العهد
ويقال: كَانَ بمصر أخوان توأمان تَكهَّلاَ، ولا يُفرِّق بينهما من يراهما من قوة الشبه بينهما. فوجب عَلَى أحدهما دَين فحبسه القاضي، وَكَانَ أخوه يجيء إِلَيْهِ زائراً فيجلس فِي الحبس عوضه ويتوجه ذَلِكَ. فاشتهر هَذَا حَتَّى بلغ أبا عبيد فأحضرهما فقال لهما أيكما المحبوس؟ فبادر كل منهما فقال: أنا هو. فأطرق ثُمَّ طلب الغريم، ودفع إِلَيْهِ الدَّين الَّذِي ثبت لَهُ، فراراً من الشّنعة والغلط فِي الحكم.
وقيل لأبي عبيد: إن فِي حُبس الوليد بن رفاعة شرطاً، وهو أن يُجعل فِي وجوه البرِّ وَلَمْ يعين شيئاً. فسأل أبو عبيد عن ترجمته، فقيل لَهُ: كَانَ عامل مصر. وَكَانَ يلعن علي بن أبي طالب على المنبر فقال: اجعلوا حُبسه للمنبوذين، فثبت إِلَى الساعة. وأراد أبو عبيد التلميح بالحديث الوارد، إن من يبغض علياً لغير رِشْدَةٍ.
وقال الطحاوي: كَانَ أبو عبيد يذاكرني بالمسائل، فأجبته يوماً فِي مسألة، فقال لي مَا هَذَا قول أبي حنيفة. فقلت لَهُ: أَيُّها القاضي أوَ كل مَا قاله أبو حنيفة أقول بِهِ. قال: مَا ظننتك إِلاَّ مقلِّداً. فقلت لَهُ: وهل يقلد إِلاَّ عَصَبِي فقال لي أَوْ غبي. فطارت هَذِهِ الكلمة بمصر حَتَّى صارت مَثَلاَ.
وكان أبو عبيد يذهب إِلَى قول أبي ثور، ثُمَّ صار يختار، فجميع أحكامه بمصر باختياره. وحَكَم بما لو حَكَم بِهِ غيره مَا سكتوا عنه. فلم ينكر عَلَيْهِ أحد، لأن أبا عبيد كَانَ لا يُطعن عَلَيْهِ فِي علم، ولا تلحقه تهمة فِي رشوة، ولا يحيف فِي حكم، وَكَانَ يُورِّث ذوي الأرحام.
قال ابن زولاق: سمعت أبا الطاهر الذُّهلي يقول: كَانَ أبو عبيد بالعراق مشهوراً بالعلم والسَّتر والتعفف. وَكَانَ يلي قضاء واسط قبل أن يلي القضاء بمصر. وهو آخر قاض ركب إِلَيْهِ الأمراء بمصر.
قال ابن الحداد: مَا كَانَ يُؤَمِّر أحداً من ولاة مصر. كَانَ إِذَا أرسلني فِي حاجة إِلَى تكين يقول: كَيْفَ أبو منصور؟ وإذا ذكر هلال بن بدر قال: هلال بن بدر.