للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فاتفق أنه اشترى كتباً من تركة، فجاء أمين الحكم يطالبه فلم يجد معه الثمن، فرفعه إِلَى القاضي بدر الدين المذكور، فتوسط بينه وبين أمين الحكم أن تكون جامكيته بالكاملية فِي وفاء دَينه وَفِي الفاضلية بكلفته، وَلَمْ يكن بيده حينئذ غيرهما وقال لَهُ القاضي: يَا شيخ تقي الدين، أنا أغار من هَذِهِ الاستدانة. فقال: مَا يوقعني فِيهَا إِلاَّ محبة الكتب.

قال جمال الدين المذكور: كَانَ من حق القاضي أن يقوم عن الشيخ بثمن الكتب بل بجميع مَا عليه من الدَّين، وَكَانَ ذَلِكَ يلزمهم من عدة جهات. قلت: هَذَا مما يتعجب من مثله مع كثرة مَا كان للقاضي يومئذ من متحصل الأنظار والمرتبات عَلَى جهات المملكة واتساع أموال مودع الحكم، فلو صرف لَهُ ذَلِكَ من زكاة يتيم واحد لأمكنه، فكيف أغفل ذَلِكَ واقتنع بالمعاتبة! والله إن هَذَا لشيء عجيب.

وقرأت بخط البشيشي فِي ترجمة الزرعي: أن الملك الناصر لما عاد إِلَى السلطنة بعد إقامته فِي الكرك وسلطنة المظفر بيبرس، كَانَ الزرعي ممن ينوب عن ابن جماعة، فسأل الناصر مَن يثق بِهِ عمن يصلح للقضاء فوُصِف لَهُ الزرعي، فاستدعى بِهِ فعينه وألبسه الخلعة وأمره أن ينزل كم اهو إِلَى الصالحية ويسلم عَلَى ابن جماعة ففعل، فلم يشعر ابن جماعة وهو فِي مجلس الحكم والنواب بَيْنَ يديه والموقع يكتب والقاضي يعلم وتارة يحكم والنقيب يقدم الخصوم والقصص إِلاَّ والزرعي قَدْ دخل لابساً التشريف. فظن ابن جماعة أنه خلع عَلَيْهِ بقضاء الشام، فنهض لَهُ قائماً وهنأه، واستمر الزرعي قائماً عَلَى قدميه وابن جماعة واقفاً لوقوفه فقال لَهُ النقيب: مَا الَّذِي وليتم؟ فقال: مكان مولانا قاضي القضاة. فنكس ابن جماعة رأسه. وخرج من القاعة يزاحم مَن فِي الباب من الخلائق وأكثرهم لا يشعر بشيء من حاله حَتَّى ركب ومضى، وجلس الزرعي مكانه وانعقد المجلس عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ومضى ابن جماعة فِي غاية الانكسار والخجل. وبلغ الملك الناصر ذَلِكَ فأعجبه جدّاً لأنه كَانَ تقم عَلَى ابن جماعة مسارعته إِلَى سلطنة المظفر بيبرس.

ومات فِي ليلة الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وَقَدْ كمل أربعاً وتسعين سنة وشهراً وسبعة أيام.

محمد بن أسعد الميانشي ...

<<  <   >  >>