ولم يزل على حالته، حتى ولي القاضي شمس الدين الطرابلسي ولايته الثانية. فاتفق له معه شيء، فامتنع من النيابة، إلى أن قُدِّر أنه استدعاه الملك الظاهر، فخلع عليه وفوض إليه قضاء الحنفية. فاتفق أنه كان حينئذ قد اعتكف في العشر الأخير من شهر رمضان، بالطيبرسية المجاورة للجامع الأزهر. فخرج من اعتكافه بقية الشهر فباشر بصلابة ونزاهة وعفة، وتشدد في الأحكام، وفي قبول الشهود.
قال المقريزي: لكنه دخله الجبن خشية من عود الطرابلسي إلى المنصب. فكان لا يقضي لأحد حاجة. ويعتذر بأن الطرابلسي وراءه. فوقفت أحواله، ومقته مَن كان يحبه، وندم على ولايته من تمناها له، ليُبُس قلمه عن الأمور العامة والخاصة، ولم يتفق أنه عدَّل من الشهود أحداً من مدة ولايته اثنين، وأبغضه الرؤساء لرد رسائلهم.
وذكر بعض من يعرفه: أن سبب خموله في المنصب، أنه كان يزهو بنفسه، ويرى أن المنصب دونه، لما كان عنده من الاستعداد، ولما في غيره من النقص في العلم والمعرفة، فانعكس أمره لذلك.
وذكر أيضاً أن كبار الموقعين في زمانه، كانوا يرجعون إليه فيما يقع لهم من المعضلات، ويحمدون أجوبته فيها. وكان جَمْعُهُم إذ ذاك متوفراً.
واشتهر عنه أنه كان إذا رأى المكتوب عرف حاله من أول سطر بعد البسملة غالباً. ولم يكن فيه ما يعاب به إلا ما تقدم ذكره، من التوقف عن الأمور، ولو كانت واضحة.
وكان الملك الظاهر يجلُّه ويكرمه، بسبب أنه كان ممن امتنع من الكتابة في الفتاوي، التي كتبت عليه في كائنة الكرك. واستتر بمنزله بكوم الريش، حتى انقضت تلك المحنة، فكان يشكر له ذلك. وكان يذكر أنه لما طلبه ليوليه القضاء سأله عن اسمه ونسبه، فذكره له، فأمر بعض خدمه، فأحضر كيساً من الحرير الأسود، فأخرج منه ورقاً، وأمر بعض مماليكه أن يتصفح الأسماء، هل فيها اسمه، فلم يجدوا
فيها اسمه. فسأله، هلا كتبت في الفتاوي؟ فذكر له فراره واستتاره بمنزله فأعجبه فلم يزل على منزلته عنده، حتى تحرك الظاهر للسفر إلى الشام، فتوسل القاضي جمال الدين العجمي وهو يومئذ قد ولي نظر الجيش، بصهره شهاب الدين الطولوني المعلم، وكانت ابنتُه تحتَه، وابنته الأخرى عند