أن تبقى وتدوم بحالها، ولا يخلو من تذكر ذلك منها وإخطار ذلك بباله فيها وتصحيح العزم وشدة الجلد متى حدث ذلك بها. فإن ذلك تمرين وتدريج ورياضة وتقوية للنفس على قلة الجزع عند حدوث المصائب لقلة ما كان من اعتياده وثقته وركونه إلى بقاء محبوباته في حال وجودها ولكثرة ما مثل للنفس وعودها وآنسها بتصور المصائب قبل حدوثها. وفي مثل هذا المعنى يقول الشاعر
يصوِّر ذو الحزم في نفسه ... مصائبَه قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتةً لم تُرِعْهُ ... لِما كان في نفسه مَثَّلا
رَأَى الأمر يُفضي إلى آخِرٍ ... فصيرِّ آخِرَه أوّلا
فإن كان هذا الإنسان في غاية الفشالة ومفرط الميل مع الهوى واللذة ولا يثق من نفسه باستعمال شئ من هذين البابين فليس إلا أن يحتال أن ينفرد من محبوباته بواحدة ينزلها منزلة ما لا بد منه وما ليس غيره، بل يقرن إليها ويتخذ منها ما ينوب - أو يقارب أن ينوب - عن مفقود إن فقد منها، فإنه بهذا الوجه يمكن أن لا يفرط حزنه واغتمامه بأي واحد فقد منها. فهذه جملة يحترس به من كون الغم ووقوعه. فأما ما يدفع به أو يقلل منه إذا كان ووقع فإنا قائلون فيه منذ الآن
فنقول: إن العاقل إذا تفقَّد ونظر فيما يعتوره الكونُ والفسادُ من هذا العالم ورأى أن عنصرها عنصرٌ مستحيل منحلّ سيّال لا ثباتَ لشيءٍ منه ولا دَوامَ له