للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَمُحْدَثًا، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَالَتْ: لَمْ يَسْمَعْ النَّاسُ كَلَامَ اللَّهِ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُسْمَعُ إلَّا مِنْ الْمُتَكَلِّمِ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: يُسْمَعُ حِكَايَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُسْمَعُ عِبَارَتُهُ لَا حِكَايَتُهُ، وَمِنْ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَنْ قَالَ: يُسْمَعُ شَيْئَانِ الْكَلَامُ الْمَخْلُوقُ الَّذِي خَلَقَهُ، وَالصَّوْتُ الَّذِي لِلْعَبْدِ.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُبْتَدَعَةٌ، لَمْ يَقُلْ السَّلَفُ شَيْئًا مِنْهَا، وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَلَكِنْ أَلْجَأَ أَصْحَابَهَا إلَيْهَا اشْتِرَاكٌ فِي الْأَلْفَاظِ وَاشْتِبَاهٌ فِي الْمَعَانِي، فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: سَمِعْت زَيْدًا (١) وقِيلَ: هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ، فَإِنَّ هَذَا يُقَالُ عَلَى كَلَامِهِ الَّذِي - تَكَلَّمَ هو بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَأَنَّهُ إذَا سُمِعَ مِنْهُ سُمِعَ بِصَوْتِهِ، وَإِذَا سُمِعَ مِنْ غَيْرِهِ سُمِعَ من ذَلِكَ الْمُبَلِّغِ لَا بِصَوْتِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَفْظَ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ يُقَالُ مَعَ الْقَرِينَةِ هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ، وَإِنْ ترْجمَ عَنْهُ بِلَفْظِ آخَرَ، كَمَا حكى اللَّهُ كَلَامَ مَنْ يَحْكِي قَوْلَهُ مِنْ الْأُمَمِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا قَالُوا بِلَفْظٍ [عِبْرِيٍّ] أَوْ سُرْيَانِيٍّ أَوْ قِبْطِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوضِع أُخَرَ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ نَشَأَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ نِزَاع فِي مَسْأَلَتَيْ الْإِيمَانِ والْقُرْآنِ [بِسَبَبِ] أَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ وَمَعَانِي مُتَشَابِهَةٍ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ كَالْبُخَارِيِّ - صَاحِبِ الصَّحِيحِ - وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ. وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ - تعالى - وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ السنة (٢) عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ، وأصوات العباد مخلوقة، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ.

وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَجَرَى لِلْبُخَارِيِّ مِحْنَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّا مَاتَ أَمَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ أَن لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ


(١) في مجموع الفتاوى: (كلام زيد).
(٢) في مجموع الفتاوى: (المسلمين).

<<  <   >  >>