أشبَ الجوانب، مُنْسرِبَ الذِّوائبِ، قد اخترقتِ الجداوِلُ ساحاتِه، ودَبَّجَتِ الأزاهِرُ مساحاته. وأدْواحُه تنعَطِفُ في أكُفِّ الرِّياحِ،
وتكادُ تنْعَصِفُ منَ الارتياحِ، قد نشرت ورقها ذوائبُ الحِسانِ، وزهرتْ لتَأميلِها كأنّها زهرةُ بُسْتان.
فرأيْنا روْضاً تروقُ، وأرْضاً كأنَّما خلع عليها الشُّروقُ، فضربتِ المَحَلاتُ بها مضارِبها، وأخَذَتْ
جوانِبَها كلها مشارقها ومغاربها، فلمّا رأى أهلُها ذلك سُقِطَ في أيديهم، وحَلَّ البلاء في ناديهم، فلم يَبْرُزْ
منهم ذلك اليوم أحدٌ، وصارَ الرُّعْبُ بيننا وبينَهم حدٌّ، فَبِتْنا بعد أنْ هَدَمْنا صوامعها والكنائس، وخَلَعْنا
أَلْسِنَةَ تِلْكَ النَّواقِس، فلَّما بدا منَ الفَجْرِ سُفُورُ، ونشَرَ للصُّبْحِ كافُور، برزَ لنا منها أُسُودٌ على عِقْبَانٍ،
وجُرْدٌ كأَنَّهم الكُثْبانُ، ونحنُ مسْتلِمونَ بالسلاحِ، مُعْلِنُونَ بدعوة الفلاح. فحملوا علينا حمْلةً ظَنَنَّا أنَّ
الجبالَ إلينا زاحفةً، وكادتِ القُلُوبُ منها تعودُ واجِفَة، فصبرنا لحرِّ طعانِهم، وتجرَّعنا مرارةَ مُرَّانِهم،
وأَقْبَلْناهُم وجُوهاً تتهَلَّلُ إذا عَبَسَ الحُمَامُ، وأَنْفُساً تتجَلَّدُ كلَّما عضَّها الحُسامُ. فتَجَرّعْنا الغَصصَ
وتَجَرّعوا، وأَشْرَعْنا إليهم مثْلَ ما إلَيْنا أشْرعوا، وتواقفْنا طويلاً وقدْ حَمَتِ الصُّدور، وكُؤوسُ المنايا
تَدُور، وعزائمُ البأسِ تُنْتَضى، والأرْواحُ تُقْتَضى، إلى أنْ صدقَ المُسْلِمونَ في الجِلادِ والطعانِ،
وحملوا عليهم كأنَّهم العِقْبان، فوَلَّى المُشركونَ أمامَهم مُنْهَزِمينَ، وتَوَلاَّهم المسلمون بالسُّيوفِ مُلْتَزِمينَ،
ووقفوا لهم دونَ المعقِل فلمْ يكنْ لهم مَنْفذ، وما نجا منهم ولا فذّ. وتَحَصَّلَ للمُسْلِمينَ منْ دوابِّهم
وأسْلابِهم ما اسْتَوْفروهُ حظّاً، وأَقَرُّوا به لَحْظاً، والحمد لله ربِّ العالمين. وصلى الله على محمدٍ خاتم
النبيين.