تناولينها جارية هَيْفاء، رخيمة الدال بديعة الشَّكل أشْرَبُها من كَفِّها، واجعل نقلي رُضابَ فمِها. فأطرق
الأمير وتَحَدَّرَتْ عبراته، وهاجَتْ لو عاته، وتحركت سَواكنه، وبكى حتى بُلَّ سِرْبالُه. فلما رأى
الوصائف حاله تَنَحَّيْن عنه، فعند ذلك قال لي: أبا زيد هذا والله آخر يوم من أيامك، وانصِرَامِ مُدَّتِك،
بالله لأضْرَبَنَّ عنقك. أو لتخبرني ما الذي أوقع هذه الصفة في قلبك.
فقلت: نَعَمْ، أصْلَحَ الله الأمير، كنْتُ جالِسا على بابِ أخيكَ سعيد، فإذا أنا بجاريةٍ قد خَرَجَتْ إلى بابِ
القصْر كالغزال، انفلت من شبكة صائد، وعليها قميص سَكْبٌ اسْكنْدراني، تبصر العين من فوقه
رمانتي صدرها، ونقش تكَّتها، وفي رجليها نَعْلان أحمران، فتعجَّبت أيها الأمير من بياض رجليها،
في حمرة نعليها، ولها ضفيرتان تضربان خصريها، قد أسبلتهما على منكبيها، وصدغان كأنهما نونان
وحَاجِبانِ كأنهما قوسان، وعينان ليستا لحور الجِنان، بالسحر مملوءتان. فأبصرت أحسن سواد، رأيته
في بياض، من لِحاظٍ مُعْتَلَّة، في جُفونِ ليست بمِراض، وعِقْدُها في نَحْرِها يبرق، والشَّمس فوق
إزارِها تُشْرِقُ. فلمّا وصلت إلى باب القصر، تَنَهَّدَتْ تنهدا جاوبتها الحِيطان، قالت: عِبادَ الله من لي
بدواء مالا يُشتكى، وعِلاج مالا يُوسى. طال والله الحجاب ومنع الجواب، ولزم الاكتئاب، فالفؤاد
مُخْتلس، والنوم مُحْتبس، والحزن دائم، والدمع ساجم. فرحم الله قوماً عاشوا تجلداً، وماتوا تبلداً، ولو
وجدنا إلى العزاء سبيلا، لكان الأمر أمراً جميلا. ثم أسبلت عبرات حكت تناثر اللؤلؤ الرطب، على
الورد الغض، ثم رفعت رأسي فقلت: أيتها الجارية إنسية أم جنية، أرضيّةٌ أمّ سَمائية؟ فقد أعجبني ما
رأيت من حسنك، وأذهلني ما سمعت من منطقك، فسترت وجهها بكمها. ثم قالت: عُذْرا أيُّها المُتَكَلِّمُ
الأديبُ فما أوْحَشَ الوحيدَ بلا مساعد، والغريبَ عن أوطانه، والنازحَ عن أحبابه وخِلانه. ثم
انصرفت، فوالله - أيها الأمير - ما رأيتُ حسنا بعده، الاّ سمج في عيني