قال لي: يامولاي! إِنَّ بَيْنَك، وبين الطّريق أميالاً، ولستُ أَشُكّ أنك تَعْطَش، ولكن أملأ قربتي هذه،
وأحملها قدامك. فقلت: افعل. فملأ قربته، ورفعها الي، وصار قدامي يمشي، وهو يَخْجَلُ في مِشْيته،
غير خارج عن الايقاع. فإذا أمسكت لأستريح، أقبل علي فيقول: يامولاي! أَعَطِشتَ؟
فأغنيه، حتى أوقفني على الجادة، ثم قال لي: سِرْ رَعَاكَ اللَّه، ولا سَلَبك، فأكساك من هذه النِّعم، بكلام
أعجمي معناه هذا الدعاء. فلحقت بالرفقة، والرشيد قد بثَّ الخيل يطلبونني، حين فقدني. فَبُشِّر بي
حين رأوني؛ فلما أتيته، قَصَصْتُ عليه القِصَّة، فقال: عليّ بالأسود. فما كان إلاّ هنيهة، حتَّ مَثُلَ بين
يديه، فقال له: وَيْلَكَ، ما حَزَّ في صدرك؟ فقال: يا مولاي مَيْمُونه. قال: ومن ميمونه؟ قال: بنت
حبشية. قال: ومن حبشية؟ قال: بنت بلال. فأمر من يستفهمه؛ فإذا الأسود، عبد لبني جعفر الطيار
وإذا السوداء التي يهواها، لقوم من بني الحسن بن علي رضوان الله عليهم. فأمر الرشيد عند ذلك
بابتياعها له؛ فأبى مواليها أن يقبلوا ثمنا، ووهبوها للرشيد فاشترى الأسود، وأعتقه، وزوّجه منها،
ووهب له من ماله (بالمدينة) حديقتين، وثلاث مائة دينار.
وحكى أبو الفرج عن حماد الراوية، قال: خرجت في بعض الطرق، أريد (البصرة)؛ فبينما أسير، إذ
لقيت غلاماً يرعى إبلاً، وهو يتغنّى ويقول:
أَلاَ لِلَّهِ قَلبي كَيْفَ يَصْبُو ... بِخَودٍ لاتريدُ له ثَوَابا
أُحِبُّ وَمَا أُحِبُّ سِوَى كريمٍ ... لَهُ أصْلاَن قَدْ فَرعا وَطَابا
وقَدْ زَعَمَتْ لُبَانة أَنَّ رأسي ... تَغَيّر لَوْنُه مِنْه وَشَابَا