عندما يتحدث، فهو المتحدث والمستمع في آن. والحق أنه كان خطيبا مفوها ووطنيا حقيقيا.
لم يتسن لي التعرف على عبد الجليل، الذي استفرد به ماسينيون قبل وصولي باريس، فاحتجز بين أربعة جدران لحضور حلقات دراسية وتكوينية في الدين المسيحي (séminaire) ليغادرها سنين بعد ذلك تحت اسم (الأب عبد الجليل) (Le père Abdeljalil). وربما كان أجدر الطلبة وأفضلهم، فقد كان شاهدا على تحلل البرجوازية المسلمة وتعفنها (وكان هو نفسه منتميا إليها)، فلجأ إلى المسيحية مدفوعا بمثالية عرف ماسينيون كيف يزينها له وهو المبتدئ الذي تعوزه التجربة.
من هذه العصب الثلاث كانت عصبة التونسيين هي الأطهر وكان المغاربة أكثرها إثارة للإزعاج والشقاق، أما الجماعة الجزائرية فكانت هي الأقذر والأكثر خسة.
وكان هناك في الأخير صنف من الطلبة يرون أنهم بغير انتماء. فساحلي لم يتخل بعد عن قبائليته، فكانت لغته ونفسيته تعزلانه عن الوسط.
وقد حملنا معنا إلى باريس، أنا ومحمد بن ساعي، نزعة إسلامية توحيدية تعزلنا أيضا عن الآخرين، من الجانب الأخلاقي على الأقل. وأظن أننا كنا فخورين بعزلتنا.
هذا هو العالم الصغير للطبقة المثقفة لشمال إفريقيا كما كان في سنة ١٩٣٢ في باريس، وهناك بالطبع العديد من الأوجه الثانوية التي لم أتمكن من حفظ أسماء أصحابها.