وبهذا تكون حقيقة الميثاق وعلته قد بدت جلية لذوي العقول، وحصحصت لذوي الأبصار، فهو حجة مستقلة لدحض ومحق مرضي التعطيل والشرك.
فالقول بإثبات الصانع: علم فطري ضروري لا تنفك عنه أي نفس، وهذا العلم الفطري الضروري يبين بطلان الشرك في التأله، وهو التوحيد الذي شهدت به الذرية. ومن المعلوم أن مقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه في كل شيء؛ إذ كان هو الذي أنشأه ورباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه. فإذا احتج المشركون بهذا، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقضه ويبطل تقوله، لقالوا: إنما الذنب ذنب آبائنا المشركين ونحن ذرية لهم بعدهم اتبعناهم على جهل منا بسوء طريقتهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم ...
فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به: من وحدانية الله في ربوبيته وألوهيته، وقامت عقولهم شاهدة بصحته، وناطقة بجرم ضده، كان معهم: ما يبين بطلان الشرك.
فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء؛ كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية السابقة لهذه العادة الأبوية.
وهذا يقتضي أن العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك؛ لا يحتاج ذلك إلى بلوغ الرسالة وإقامة الحجة، فإن الله جعل ما تقدم حجة عليهم بدونها.
وبنقض الميثاق يكون قد قام بصاحبه ما يستوجب العذاب، إلا أن الله لكمال رحمته، وسمو إحسانه قضى أن لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وإن كان قد قام بناقضه ما يستحق به الذم والعقاب.