[المبحث الثالث: الفطرة حجة مستقلة في وجوب عبادة لله والبراءة من الشرك]
النفس فقيرة بالذات ومريدة ضرورة، وفطرت على تأله إله ليسدّ فقرها ويلبي مرادها. فلا بد لكل أحد من إله يألهه ومعبود يعبده، وصمد يصمد إليه في: الرغبات والرهبات. فإن كان المعبود ميتاً فالحي أكمل منه؛ والنفس مفطورة على عبادة الكامل الذي لا نقص فيه. وإن كان المعبود من دون الله حيا لزم فقره وحاجته لغيره، وذلك طعن في تألهه.
فلزم - منعاً للتسلسل الممتنع - تأله الناس لإله لا يأله، وصمد لا يصمد لغيره، ومعبود لا يعبد، غني بالذات، كامل الكمال المطلق الذي لا نقص فيه.
ومن هنا لو تركت الفطر على صبغتها لتألهت الله وحده - ضرورة - وكفرت بكل معبود سواه. وهذا برهان قطعي وعلم ضروري ودليل كلي، وضده مكابرة وسفسطة لا يؤبه لها.
قال ابن القيم: "فإن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها، وكونها مريدة هو من لوازم ذاتها؛ فإنها حية، وكل حي شاعر متحرك بالإرادة؛ وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد: إما أن يكون مراداً لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه قطعا للتسلسل في العلل الغائية فإنه محال كالتسلسل في العلل الفاعلة. وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهو الله الذي لا إله إلا هو: الذي تألهه النفوس، وتحبه القلوب، وتعرفه الفطر، وتقرّ به العقول، وتشهد بأنه ربها ومليكها وفاطرها. فلا بد لكل أحد من إله يأله، وصمد يصمد إليه، والعباد مفطورون على محبة الإله الحق، ومعلوم بالضرورة أنهم ليسوا مفطورين على تأله غيره؛ فإذاً إنما فطروا على تألهه وعبادته وحده؛ فلو خُلّوا وفطرهم لما عبدوا غيره، ولا تألهوا سواه؛ يوضحه. الوجه الخامس عشر: أنه يستحيل أن تكون الفطرة خالية عن التأله