لا أدري كيف يتعامل هذا التفكير مع العقوبات الشرعية المحددة في كتاب اللَّه في قطع يد السارق وجلد الزاني والقاذف، فالحكم هنا تجاوز مجرد الإلزام أو المنع الذي يستكثرونه على الشريعة إلى العقوبة المحددة، وحتى الأحكام التي لم ترد الشريعة بعقوبات محددة لها هي من الجرائم التي تستحق (التعزير) بحسب حال الذنب وصاحبه والعوارض المحتفَّة به، (١) فالأوامر والنواهي لا تقف فقط عند حد الإلزام والمنع بل تصل إلى حد العقوبة وهو أمر أعلى من مجرد الإلزام.
وأعلى من هذا كله أنَّ اللَّه -تعالى- قد أمر بالتحاكم إلى ما أنزل، ووصف المستنكفين عنه بالأوصاف العظيمة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: ٤٤]، {هُمُ الظَّالِمُونَ}، {هُمُ الْفَاسِقُونَ}، بما يفهم منه كل مسلم أن أحكام الشريعة أحكام قضائية عليا ملزمة، وأن الحكم بها والفصل بين الناس بناء عليها من قطعيات الشريعة، ومن ينفي (الإلزام) و (المنع) كيف يستقيم على فهمه وجود حكم بغير ما أنزل اللَّه؟ وما دامت الأوامر والنواهي شأنًا خاصًّا فما معنى الحكم إذن؟
وتجد في كتاب اللَّه ثناء عظيمًا على هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[آل عمران: ١١٠]، وأعطاها اللَّه أمانًا من الهلاك ما دامت ممتثلة له {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود: ١١٧]، وقد فسَّرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في جوابه عن سؤال زينب بنت جحش -رضي اللَّه عنها-: أنهلك
(١) والتعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وهو محل اتفاق بين العلماء، انظر: مجموع الفتاوى: ٣٠/ ٣٩ و ٣٥/ ٤٠٢، الطرق الحكمية، ص ١٣٤.