فيقول أعشى قيس: ما هذه ممّا صدر عنَّي، وإنَّك منذ اليوم لمولعٌ بالمنحولات.
ويمرُّ رفٌ من إوزّ الجنَّة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الرَّوضة ويقف وقوف منتظر لأمرٍ، ومن شأن طير الجنَّة أن يتكلَّم، فيقول: ما شأنكنَّ؟ فيقلن: ألهمنا أن نسقط في هذه الرَّوضة فنغنّي لمن فيها من شربٍ. فيقول: على بركة الله القدير. فينتفضن، فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنَّة، وبأيديهنّ المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي. فيعجب، وحقَّ له العجب، وليس ذلك ببديعٍ من قدوة الله جلَّت عظمته، وعزَّت كلمته، وسبغت على العالم نعمته، ووسعت كلَّ شيءٍ رحمته، ووقعت بالكافر نقمته. فيقول لإحداهنَّ على سبيل الامتحان: اعملي قول أبي أمامة، وهو هذا القاعد:
أمن آل ميَّة رائحٌ أو مغتد، ... عجلان ذا زادٍ وغير مزوَّد؟
ثقيلاً أوَّل. فتصنعه، فتجيء به مطرباً، وفي أعضاء السامع متسربّاً. ولو نحت صنمٌ من أحجار، أو دفٌّ أشر عند النَّجَّار، ثمّ سمع ذلك الصوت لرقص، وإن كان متعالياً هبط ولم يراع أن يوقص. فيرد عليه، أورد الله قلبه المحابّ، زولٌ، تعجز عنه الحيل والحول، فيقول: هلمَّ خفيف الثَّقيل الأوَّل! فتنبعث فيه بنغمٍ لو سمعه الغريض، لأقرَّ أنَّ ما ترنَّم به مريضٌ. فإذا أجادته، وأعطته المهرة وزادته، قال: عليك بالثقيل الثاني، ما بين مثالثك والمثاني؛ فتأتي به على قريٍّ لو سمعه عبد الله بن جعفر لقرن أغانيَّ بديحٍ إلى هدير ذي المشفر. فإذا رأى ذلك قال: سبحان الله! كل ما كشفت القدرة بدت لها عجائب، لا تثبت لها النجائب؛ فصيري إلى خفيف الثقيل الثاني، فإنّك لمجيدةٌ محسنة، تطرد بغنائك السّنة. فإذا فعلت ما أمر به، أتت بالبرحين، وقالت للأنفس: ألا تمرحين؟ ثمَّ يقترح عليها: الرَّمل وخفيفه، وأخاه الهزج وذفيفة؛ وهذه ألألحان الثمانية، للأذن تمنيها المانية.
فإذا تيقّن لها حذافةً، وعرف منها بالعود لباقةً، هلَّل وكبَّر، وأطال حمد ربَّه واعتبر. وقالك ويحك! ألم تكوني السّاعة إوزَّةً طائرة، والله خلقك مهديَّة لا حائرة؟ فمن أين لك هذا العلم، كأنّك لجذل النفس خلم؟ لو نشأت بين معبدٍ وابن سريج، لما هجت السامع بهذا الهيج، فكيف نفضت بله إوزّ، وهززت إلى الطَّرب أشدَّ الهزَّ؟ فتقول: وما الذي رأيت من قدرة بارئك؟ إنّك على سيف بحرٍ، لا يدرك له عبرٌ، سبحان من يحيي العظام وهي رميم.
[لبيد]
فبينا هم كذلك، إذ مرَّ شابٌ في يده محجن ياقوت، ملكه بالحكم الموقوت، فيسلّم عليهم فيقولون: من أنت؟ فيقول: أنا لبيد بن ربيعة بن كلاّب. فيقولون: أكرمت أكرمت! لو قلت: لبيدٌ وسكتّ، لشهرت باسمك وإن صمت. فما بالك في مغفرة ربَّك؟ فيقول: أنا بحمد الله في عيشٍ قصّر أن يصفه الواصفون، ولديَّ نواصف وناصفون، لا هرم ولا برم. فيقول الشيخ: تبارك الملك القدُّوس، ومن لا تدرك يقينه الحدوس، كأنَّك لم تقل في الدار الفانية: