إن معنى البغض في الله، أن يبغض المسلم من الشخص تلبسه بالمعاصي، بحيث لا تكون في نفسه أي كراهية لشخصه بالذات. ولا ريب أن مبعث هذا البغض إنما هو الغيرة والمبالغة في حب الخير له، وطبيعي أن يكون شعور المسلم إذ ذاك فياضاً بالشفقة والغيرة على شخص هذا العاصي بمقدار ما يكون فياضاً ببغض عصيانه، أي فالمسألة على العكس مما تتصور، بينهما التلازم التام، وليس بينهما أي تعارض أو تشاكس.
ولكن كم هم أولئك الذين يفرقون بين البغض لله، والبغض انتصاراً للنفس والهوى، ثم يضبطون نفسهم عن أن تنال حظوظها تحت هذه اللائحة التي ما أيسر أن تستر ألواناً من الأحقاد الشخصية الدفينة ودوافع الأنانية والانتصار للذات، ألا وهي لائحة: البغض في الله؟؟..
إنني لأعلم أن بعض المسلمين تفيض أفئدتهم بالضغائن والأحقاد على أولئك الشاردين والمنحرفين عن جادة الإسلام، وإنني لأعلم أن هذه الضغائن إنما تجمعت في افئدتهم بعوامل شتى مردها جميعاً إلى حظوظ النفس وأهوائها وحب الانتصار للذات التي تتمثل آناً في الفرد وتتمثل آناً في الجماعة. ثم يحاولون أن يعطوها الصفة الشرعية فيسدلون عليها لائحة البغض في الله!..
ولا يعجلن قارئ عليّ، بتهمة التجني أو إساءة الظن، بل ليرجع إلى نفسه فليتأمل في الحاجز الدقيق، الذي يفصل ما بين بغض العاصي لوجه الله عز وجل وبغضه إرواءاً لحظ من حظوظ النفس، يجد أنه حاجز دقيق جداً، قل أن يتبينه الإنسان إن لم يضع نفسه موضع الاتهام، على ضوء المشاعر والخلجات القائمة وراء جنبيه والتي لا يمكن ـ بعد الله عز وجل ـ أن يطلع عليها أحد غيره.
وها أنا اضرب المثل بنفسي، فلمن شاء أن يقيس نفسه عليّ، ولمن شاء أن يراها مبرأة من كل عيب: كثيراً ما أبصر في أيام شهر رمضان، رجلاً مقبلاً نحوي، في أحد الطرق، فما أن يراني حتى يشرع دخينته إلى فمه وينفخها ليجعلني أبصر أنه مفطر مجاهر بالافطار على قارعة الطرق بين الناس!..
لا ريب أن الغضب يعتلج في صدري لعمله هذا.
ولكن هل هو الغضب لوجه الله؟ ما أكثر ما سألت نفسي هذا السؤال. وبذلت الجهد لمعرفة الجواب الصحيح، ولقد تبين لي، ويا للاسف، ان قدراً كبيراً من هذا الغضب إنما ثار في نفسي انتصاراً لها وألماً من أن تخدش (شخصيتي الدينية) من قبل هذا الإنسان!..
فإنني افرض الا أكون بمظهري الديني، وأن يجاهر الرجل بإفطاره أن يكون منتبهاً إلي، ثم اعدو إلى نفسي، فلا اجد فيها من هذا الغضب إلا الشيء اليسير.
إذن، فالغضب لم يكن لوجه الله، وإنما جاء رداً شخصياً على إساءة شخصية، استهدفت من كياني شخصيتها الدينية، وما أكثر ما تنمو أنانية الإنسان وكبرياؤه بغذاء من الشخصية الدينية التي عرف بها في الأوساط وبين الناس.
ونظير ذلك ما قد يقع بين أستاذ الدين وأحد طلابه المستهترين، وما يقع من نقاشات حادة بين طرفين: مسلم وغير مسلم، وما قد يتلقاه المسلم من سخرية لجانب يتعلق بالدين في شخصه.. الخ..
إن الغضب قد يستشري، في مثل هذه الأحوال، بين جوانح هذا المسلم، وقد يذهب به هذا الغضب مذهباً يحمله على معالجة الأمر بأساليب وصور شتى، ولكن عليه أن يساءل نفسه، فيما بينه وبين ربه عز وجل: أحقاً أنه الغضب لوجه الله عز وجل؟
أما أنا، فقد سألت نفسي هذا السؤال، فطالعتني بالجواب الذي ذكرت. وما لي أكمته عن الناس وقد علمه رب العالمين؟..
فإذا كنا مخلصين لربنا في أمر الدعوة إلى الإسلام، فلنعترف جميعاً بأن الذي تناله نفوسنا وكبرياؤنا مما نسميه الغضب في الله، أكثر جداً مما نقدمه إلى الله تعالى نيةً صافية لوجهه. ولنعترف بان هذه هي الآفة الكبرى في حياة الداعين إلى الله.
وانظر إلى ما يقوله الإمام الغزالي رحمه الله في هذا الصدد:
( ... وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب، بل ينظر إليه المترحم عليه، ويرى إقدامه على المعصية مصيبة على نفسه، إذ المسلمون كنفس واحدة. وههنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها، فإنها مهلكة، وهي أي العالم يرى ـ عند التعريف ـ عز نفسه بالعلم وذل غيره بالجهل، فربما يقصد بالتعريف الإدلال وإظهار التمييز بشرف العلم وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل، فإن كان الباعث هذان فهذا المنكر اقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه. ومثال هذا المحتسب مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه وهو غاير في الجهل. وهذه مزلة عظيمة وغائلة هائلة وغرور للشيطان يتدلى بحبله كل إنسان، ألا من عرفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته) (١) [٨] .
فإذا طرحت حظ نفسك من الغضب على العاصين والتائهين، وبقي الغضب الذي لا سبب له إلا التلبس بالمعصية ـ وهو الغضب في الله ـ أمكنك أن تلاحظ كيفية تلاقي الشفقة على هذا العاصي والرحمة له، مع الغضب، من تلبسه بالمعصية. بل أمكنك أن تعلم أنهما متلازمان لا يفترقان بحال.
(١) إحياء علوم الدين:٢\٣٣٠.