للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقد أطال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه الأم، في بيان هذا الواجب الذي الزم الله به عباده أن يتعاملوا فيما بينهم على أساسه في الحياة الدنيا. وإليك خلاصة ما قاله في ذلك.

(.. إن الله فرض على خلقه طاعة نبيه، ولم يجعل لهم بعد من الأمر شيئاً. وأولى أن لا يتعاطوا حكماً على غيب أحد، لا بدلالة ولا ظن، لتقصير علمهم عن علم أنبيائهم الذين فرض الله تعالى عليهم الوقف عما ورد عليهم، حتى ياتيهم أمره. فإنه جل وعز، ظاهر عليهم الحجج فيما جعل إليهم من الحكم في الدنيا، بأن لا يحكموا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، وأن لا يجاوزوا أحسن ظاهره، ففرض الله على نبيه أن يقاتل أهل الأوثان، حتى يسلموا، وأن يحقن دماءهم إذا أظهروا الإسلام، ثم بين الله ثم رسوله أنه لا يعلم سرائرهم في صدقهم بالإسلام إلا الله ... اخبرنا مالك عن أبن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أن رجلاً سار النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ندر ما ساره حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يشاوره في قتل رجل من المنافقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال بلى، ولا شهادة له. فقال أليس يصلي؟ قال بلى ولا صلاة له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك الذين نهاني الله تعالى عنهم..) ثم قال: (وبذلك مضت أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق، وأعلمهم أن جميع أحكامه على ما يظهرون، وأن الله يدين بالسرائر.. فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم، استدلالاً على أن ما أظهروا، يحتمل غير ما أظهروا، بدلالة منهم أو غير دلالة، لم يسلم عندي من مخالفة التنزيل والسنة) (١) [١٣]

وهذا الذي أطال الشافعي رضي الله عنه بيانه، هو الذي تلاقى عليه إجماع جميع الأئمة وأهل الملة فيما نعلم، لم يشذ عنهم إلا الخوارج.

فليتق الله من يخالف اليوم بيان الله وسنة رسوله وإجماع ائمة المسلمين، لينساق وراء هواه في تكفير من يحلو له تكفيره ممن ظاهرهم الإسلام والانقياد لدين الله عز وجل.

***

[المشكلة الثانية: مسألة دار الكفر ودار الإسلام]

وهي أيضاً تنبثق عن السبب ذاته.. سبب الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية، ثم ترك النفس على سجيتها، في أن تتصور ما تشاء على النحو الذي تريد، ثم إطلاق الأحكام الخطيرة باسم الإسلام وشرعه، على بلاد الله عز وجل والحكم على أكثرها أو جميعها بأنها دور كفر وحرب! ...

فما هي حقيقة الحكم الشرعي في هذه المسألة؟

يجب أن تعلم قبل كل شيء السبب الذي دعا أئمة الشريعة الإسلامية إلى تصنيف البلاد كلها إلى قسمين أو ثلاثة أقسام.

إن السبب في ذلك هو الحاجة إلى وضع مقياس، يتبين المسلمون على أساسه الفرق بين البلاد التي يشرع قتال أهلها ولا تجوز الإقامة فيها في أعم الأحوال، والبلاد التي يجب الدفاع عنها وقتال من يريد اقتحامها بأي اذى أو سوء.

فكان أن استخرجوا من اوامر الله عز وجل في كتابه، ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته، هويتين، لا تخرج بلاد الله عز وجل عن أن تمتاز بواحدة منهما:

الهوية الأولى: دار الإسلام.

الهوية الثانية: دار الكفر.

وهذه الثانية إما أن يقوم بينها وبين المسلمين موجب من موجبات القتال، فتسمى عندئذ دار الحرب. وإما أن يقوم بينها وبين المسلمين موجب من موجبات السلم، فتسمى دار الامان.

وإنما يتعلق حديثنا في هذا البحث بدار الإسلام. ما هي، وكيف أصبحت دار إسلام؟ وهل يمكن أن تعود دار الإسلام، لسبب ما (في حكم الشريعة الإسلامية) إلى دار كفر؟

تلتقي كلمة أئمة المذاهب الأربعة على ان البلدة تصبح دار إسلام إذا دخلت في منعة المسلمين وسيادتهم، بحيث يقدرون على إظهار إسلامهم، والامتناع من أعدائهم. فإذا تحققت فيها هذه الصفة بسبب الفتح عنوة أو صلحاً أو نحو ذلك. اصبحت دار إسلام، وسرت عليها أحكامها من وجوب الدفاع عنها والقتال دونها، والهجرة إليها، ثم إن هذه الهوية لا تنفك عنها، وإن استولى الأعداء بعد ذلك عليها، فيجيء على المسلمين بذل كل ما يملكونه من جهد للذود عنها وطرد الاعداء منها. وإقامة أحكام الله فيها (٢) [١٤] .

يقول ابن حجر في كتابه تحفة المحتاج نقلاً عن الرافعي وغيره من فقهاء الشافعية (إن دار الإسلام ثلاثة أقسام قسم يسكنه المسلمون، وقسم فتحوه وأقروا اهله عليه بجزية ملكوه أولا، وقسم كانوا يسكنونه، ثم غلب عليه الكفار، قال الرافعي: وعدهم القسم الثاني منها، يبين أنه يكفي في كونها دار إسلام كونها تحت استيلاء الإمام وإن لم يكن فيها مسلم) (٣) [١٥] .


(١) ١٣] الأم:٧\١٦٨ و١٦٩.
(٢) ١٤] أنظر تحفة المحتاج بشرح المنهاج:٩\٢٦٩ والبجيرمي على شرح منهج الطلاب٤\٢٧٧و٢٧٨.
(٣) ١٥] تحفة المحتاج:٩\٢٦٩

<<  <   >  >>