(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا، فإذا هم مبصرون) الاعراف:٢٠٠.
وقول الله عز وجل:
(ومن يعش عن ذكر الرحمن نقَّيض له شيطاناً فهو له قرين) : الزخرف ٣٦.
وقد كان من دأب الصديقين والمخلصين من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم ومن ساروا على هديهم، أن يفزعوا الى ذكر الله واستغفاره والضراعة اليه بالدعاء، كلما طاف بهم طائف من غوائل النفس وأهوائها، فيردهم ذلك الى حمى الاستقامة القلبية والسلوكية على المنهج السليم الذي شرعه الله عز وجل.
من ذلك ما ورد في ترجمة الإمام النووي رحمه الله تعالى (وقد كانت حياته كلها وقفا على الدعوة الى دين الله إما بالكتابة والتصنيف أو الإقبال إلى الناس حكماً ومحكومين يذكرهم بالله ويدعوهم اليه) أنه كان يستغرق في الكتابة أو الدرس، فربما ألم بنفسه طائف من الشيطان، ليثير فيها حظاً من حظوظ الأهواء أو الرغائب الشخصية، فيقف عن الكتابة أو التعليم قائلاً: أُخذنا من حيث لا نشعر!.. ثم يستغفر الله ويبتهل إليه بالتوبة والدعاء!..
فهذه هي الضمانة الأولى.
أما الضمانة الثانية، فهي أن الحقيقة الاسلامية التي يدعو اليها هذا المسلم الذي التزم بمنطلق العبادة لله عز وجل في دعوته، لن يجول شيئاً فشيئاً في ذهنه الا مجرد فكرة أو مذهب سطحي يقارع به المذاهب الاخرى.
ذلك لأن مراقبته لله عز وجل، وشعوره بأنه في دعوته الناس إلى الله، إنما يعبد الله عز وجل ويتقرب اليه بقربة لا نظير لها ـ يحجزانه عن نسيان الحقيقة الاسلامية الكاملة، والتي لا تعدو في مجملها أن تكون دينونة كاملة بالعبودية لله عز وجل، فهو لا يفتأ يدعو الناس إلى هذه الحقيقة الكاملة، وما يذكرهم بما فيها من منهج ونظام واحكام، ألا ضمن هذه الحقيقة القدسية التي تلامس الشعور وتحيا في أعماق الفؤاد، فالإسلام لا يمكن ـ والحالة هذه ـ أن يؤول في وعيه وما يدعو الناس إليه، إلى مجرد عمل أو منهج سطحي، ونظام كهذه الانظمة التي لا وجود لها إلا على مسرح المرئيات!..
إن المسلم إذ يدعو الناس إلى الإسلام، وهو ماثل بصدق في محراب عبوديته لله عز وجل، لا بد أن يكون مستغرقاً، بوعيه الفكري وشعوره القلبي، في الحقيقة الإسلامية الكاملة، ومن ثم فلا بد أن يوقظ حديثه معهم نوازع الفطرة الاسلامية الكامنة في ذات كل منهم مهما كان حاله وشأنه.
أما الذي يهيج في طريق الدعوة الى الإسلام بعيدً عن ذلك المحراب، مندفعاً بالاسباب ذاتها التي تدفع صاحب أي مذهب أو مبدأ إلى الدفاع عن مذهبه وإلى دعوة الناس اليه، فلا بد ان ينسى الله عز وجل في غمار دعوته تلك، ولا بد أن ينحرف في ذلك التيار الاناني الذي ينجرف فيه دعاة الأفكار والأحزاب المتطاحنة. هيهات عندئذ أن يتأثر بدعوته أحد، اللهم إلا أن يكون تأثراً مصلحياً قائماً على الرغبة في الوصول الى أمان ومصالح دنيوية، وهذا التأثر المصلحي من شأنه أن يتحقق نتيجة للدعوة إلى أي مبدأ من المبادئ الدنيوية الأخرى، تبعاً لظروف وأوضاع معينة.
وإني لأعلم أن في المسلمين رجالاً، يجلسون ليتذكروا في أمور الدعوة الى الإسلام، ومناهجها وما يتعلق بها، فينسون في غمار حديثهم ونقاشهم أهم واجباتهم الدينية التي أناطها الله في أعناقهم، كالقيام إلى الصلاة في أوقاتها، ثم ما ينتبهون إليها إلا في آخر الوقت، ولا يقومون إليها إلا متثاقلين، ولا يؤدونها الا بسرعة خاطفة شأن من يريد أن يسرع، في التخلص من عبء يلازمه.
ليس في نظري من فرق بين الدوافع التي تجمع هؤلاء على البحث في طرق الدعوة إلى الاسلام، والدوافع التي تجمع أناساً آخرين على البحث في سبل الدعوة الى أي مذهب من المذاهب الأخرى!..إنها جميعاً تنبع من قاسم مشترك واحد، هو الانتصار للذات والحظوظ الشخصية التي يمكن أن تعبر عن نفسها بصور وأشكال شتى.
ولا ريب أن جهد هذا النوع من المسلمين، جهد ضائع، مقضي عليه بالخيبة التامة، لأن الله تعالى لا يكلأ عملاً قائماً على مثل هذه البواعث باي رعاية أو توفيق.
وإنما يكون انتصار الداعي الى الله بسر من توفيق الله فقط، كما سنشرح ذلك فيما بعد، ولأن الناس لا يصعب عليهم أن يشموا رائحة حب الانتصار للذات والسعي إلى حظوظ النفس، من خلال حديثهم لهم عن الاسلام ودعوتهم اليه.
غير أن هذه الآفات كلها تزول، ويستطيع الداعي إلى الله أن يكون في منجاة منها، إذا هو أيقن أن أعمال الدعوة الاسلامية في صفوف الناس، ليست في جوهرها إلا عبادة لله عز وجل، وإذا هو وضع يقينه هذا موضع التطبيق من عمله وقصده وشعوره في مراقبة دائمة لنفسه ألا تذهل عن هذه الحقيقة ولا تبتعد عن سلطانها.
المنطلق الثاني: ويتمثل في ضرورة الا تنبعث اعمال الدعوة الاسلامية إلا من شعور غامر بالشفقة والرحمة لعباد الله جميعاً. فعلى من جند نفسه داعياً إلى الله عز وجل، أن يجعل من قلبه وعاءً يفيض بالرحمة لعباد الله كلهم على اختلاف نحلهم ومللهم ومشاربهم واتجاهاتهم.