للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ومن النتائج الهامة لالتزام المسلم الداعي إلى الله تعالى، بهذا المبدأ، الذي لا يمكن أن يقوم إلا على معرفة هذا الفرق الكبير، بين الغضب لله والغضب للنفس ـ أن يستهين الداعي إلى الله تعالى بكل ما قد يناله من أذى أو إهانة تتعلق بشخصه وحقوقه الخاصة به، ويتجاوزه بالصفح، ولا يقابله إلا باللطف والإحسان.

فإذا وجد الاذى أو الإهانة قد اتجهت إلى حقوق الله عز وجل أو إلى شيء من شعائره وأحكامه، لم يبال بكل ما يملكه من روح ومال وجاه، في سبيل الانتصار لدين الله عز وجل وحراسة حقوقه وشعائره، أن ينالها أي إساءة أو خدش، على أن يسلك إلى ذلك سبيل الحكمة، وعلى ألا يمتزج في عمله شيء من حظوظ النفس.

دليل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتصر لنفسه في حياته كلها، من مشرك أو مجرم ناله منه ضر أو اذى في شخصه مهما بلغ من الخطورة والشدة، فقد سمت له اليهودية الشاة، كما ورد في الصحيحين، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأقرت المرأة بما فعلته، فلم يمسها بأي أذى، ولم يزد على أن قال: ما كان الله ليسلطك على ذلك! ... وعلا أحد الأعراب المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وهو نائم في ظل شجرة، فأيقظه قائلاً: من ينجيك مني يا محمد؟.. فقال له: الله، فسري الرعب في أوصال الأعرابي وسقط السيف من يده. فجلس الأعرابي بين يديه يسأله الرحمة والعفو، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاطفه ويسري عنه، وعفا عنه (١) [٩] .

ولما تكلم مسطح، مع من تكلم من المنافقين، في حق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ـ وكان رجلاً فقراً يمده أبو بكر رضي الله عنه بجراية دائمة من المال ـ أقسم أبو بكر أن يقطع عنه العون الذي كان يمده به، فأنزل الله عز وجل على نبيه هذه الآية:

(ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم) (٢) [١٠] .

وهكذا عتب الله على أبي بكر فيما أقسم عليه، إذ كان في ذلك فطنة استجابة لحظ من حظوظ النفس، وآثر له البيان الإلهي أن يكفر عن قسمه ذاك، وأن يعود إلى ما كان عليه في معاملة مسطح، وأن يتجاوز حقه الشخصي في ذلك، وأن يعفو ويصفح عنه.

وما أجمل ما رتب الله على هذه النصيحة الأخلاقية، من قوله: ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟!..وإني لأرى في تضاعيف هذه الكلمة الاستفهامية الحلوة أعظم بشارة بما ادخره الرحمن سبحانه وتعالى من الرحمة الكبرى لعباده إداً، إذا حان يوم العرض والحساب.

هذا كله، فيما يمس حقوق الداعي وجانبه الشخصي ذاته.

فأما ما يتعلق بحقوق الله عز وجل، فإنك لتلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم، ما كان يعرف في ذلك إلى الصفح والتجاوز من سبيل. ألم تر كيف غضب من سعي أولئك الذين سعوا للعفو عن المرأى المخزومية التي سرقت، وما الذي قاله في خطبته المشهورة تعليقاً على ذلك؟.. ألم تر إلى شدته في القضاء على آثار الجاهلية وتقاليدها، دون أن يراعي في ذلك رحماً ولا قرابة، وقوله وقد أعلن ذلك في خطابه يوم فتح مكة: ألا وان كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع.. ألا وإن ربا الجاهلية موضوع كله..

...

المنطلق الثالث: ويتمثل في اليقين بأن القيام بأعباء الدعوة إلى الإسلام، ليس إلا اداءً للواجب يدخل في جملة التكليفات الإسلامية التي خاطب الله بها المسلمين.

فليس من شأن الداعي إلى الله تعالى أن يخلق الهداية في قلوب الناس، وليس إليه تبديل حال إجتماعية بأخرى، وليست إليه عهدة إيجاد شيء من النتائج والآمال المرتقبة، من وراء القيام بأعباء الدعوة ومقتضياتها. بل تنتهي وظيفته التي كلفه الله عز وجل بها، عند حدود تلك النهايات التي تقف عندها قدراته التي منحه الله إياها، من بيان باللسان، وحكمة في معالجة الأمور، وتقديم للمال إذا احتاج الأمر، وتضحية بالروح والدم إذا وصلت ضرورات الدعوة إلى ذلك. كل ذلك مع التزام القواعد والأحكام الشرعية التي من شأنها أن تضبط الداعي على صراط ما ينبغي أن ينحرف عنه يمنة أو يسرة.

فإذا ادى المسلم الواجب الذي عليه، بشأن الدعوة، فليدع النتائج إلى الله تعلى وليفوض الأمر إليه، ولا يرهق نفسه بأشياء لم يجعل الله مقاليدها إليه، ولا يسعين في الأمر سعي من يتوهم أن زمام الأمور كلها بيده، فهو الذي يسوق الأسباب ويأتي بالنتائج، ويغير الأمور.


(١) قصة الأعرابي هذه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواها البخاري من حديث جابر.
(٢) ١٠] النور:٢١.

<<  <   >  >>