منَهَجّيةِ الدّعوَة
وهي الأسلوب أو النظام الذي يستحسن أو يجب اتباعه في أعمال الدعوة وشؤون الإرشاد والتوجيه.
وإنما اساس الاستحسان أو الوجوب فيه، كونه أقرب الطرق وأجداها لتحقيق الغاية من الدعوة، وكونه السبيل الأمثل إلى قناعة العقول ورضا النفوس.
وتنبثق ضرورة اتباع المنهج الذي سنذكر فيما يلي خلاصة عنه، من حقيقتين اثنيتن:
الحقيقة الأولى أن مبادئ الإسلام وأحكامه تنقسم إلى أسس تتعلق باليقين العقلي، وإلى فروع تتعلق بما يترتب على تلك الأسس من الأعمال والسلوك. والأسس العقلية نفسها تتفاوت في الشمول والترتيب العقلي.
بحيث إنك تتأمل فترى أن اليقين بأوسعها شمولاً ينهض دليلاً على الذي يبليه. فهي سلسلة من الحقائق، لا بد، إذا سرت معها بدءاً من أولها، أن تجد كل حلقة منها تهديك إلى الحلقة التي تليها، وهكذا.
واذا كانت حقائق الإسلام وأحكامه، مترابطة بهذا الترتيب، فلا بد، أن يكون المنهج الارشادي أو التعليمي لها متآلفاً مع هذا الترتيب متسقاً مع خطواته.
الحقيقة الثانية أن الإنسان من شأنه أن يتأثر بما يتلقاه من ضروب التوجيه، بدافعين اثنين: دافع عقلي ودافع نفسي. وقيمة الدافع النفسي تكون في أكثر الأحيان أشد فاعلية وأقوى تأثيراً من الدافع العقلي. إنك، إذا أمعنت النظر، رأيت أن الدوافع النفسية للسلوك، تشكل عند أكثر الناس ما لا يقل عن ٦٠%، على حين لا يزيد الدافع العقلي عندهم على ٤٠%من مجموع الدوافع السلوكية كلها، وليس في حديثنا الآن مجال لتحليل هذه الظاهرة والكشف عن أسبابها.
إنما المهم هنا أن نعلم بأن على الداعي أن يحسب للنفوس الإنسانية حسابها، وأن يتأكد من أن أمر انصياع الناس للحق لا يتعلق بالقناعات العقلية وحدها، بل يتعلق قدر كبير منه ـ بعد حصول هذه القناعات ـ بترويض النفوس على الخضوع له والانسجام معه.
وهذا من شأنه أن يضطر المرشد والداعي إلى التزام منهج من شأنه أن يجذب النفوس شيئاٍ فشيئاً إلى الحق الذي آمنت به العقول، وأن يحاذر من سلوك سبيل يثير النفوس إلى الاشمئزاز أو التبرم بما قد آمن به وصدقه العقل! ...
فمن هاتين الحقيقتين تنبثق ضرورة التزام الداعي إلى الله بمنهج يسير عليه.
وأنك لتلاحظ أن الحقيقة الأولى مردها إلى المنهج العلمي الذي يجب اتباعه في البحث عن الحقيقة. وأن الحقيقة الثانية مردها إلى تهذيب النفوس وتصعيدها شيئا فشيئاً إلى مستوى اليقينيات العقلية.
***
فأما ما تقتضيه ضرورة الاستجابة للحقيقة الأولى فيلخص في اتباع ما يلي:
١ًـ يجب النظر في حال من ندعوه إلى الله تعالى ونبصره بحقائق الإسلام، وما استيقنه عقله من مبادئه الاعتقادية. فنبدأ معه من حيث وصل إليه وصولاً صحيحاً سليماً. فإن لم يكن قد تجمع في يقينه العقلي أي شيء من حقائق الإسلام بعد، فلا بد من الرجوع معه إلى النقطة الأساسية الأولى، إلا وهي وجود الله عز وجل، وعرض البراهين والأدلة العلمية على ذلك.
ومن الخطأ الفادح أن تنزل بمثل هذا الانسان إلى أي حقيقة أخرى تقف دون مسألة الإيمان بوجود الله، فتحدثه عنها أو تناقشه فيها، أو أن تنقاد له إذا اراد أن يصرفك عن هذه المسألة الأساسية، إلى الخوض في أي المسائل الاعتقادية الأخرى المتفرعة عنها. بل إن عليك أن تعلم بأنك في انحرافك إلى هذه الخطيئة تبذل جهداً ضائعاً لن تعود منه بأي جدوى، بل إن عليك أن تعلم بأن الرجل المنطقي مع نفسه في الا يصغي إلى شيء من براهينك التي تعرضها لتلك المسائل التي تأتي في الترتيب المنهجي بعد مسألة اليقين بوجود الله عز وجل، وبالا يصدق بواحدة منها. وهو إن شغلك بهذه المسائل، مع جحوده بالله عز وجل، لا يفعل ذلك إلا صرفاً لك عن الأساس الأول الذي يكمن فيه حل المعضلات كلها.
فإذا انتهيت معه إلى اليقين بوجود الله عز وجل. فقد آن لك عندئذ أن تنتقل معه إلى الحديث عن صفات الله عز وجل وما يليق به وما لا يليق.. فإذا انتهى معك إلى يقين بذلك، فقد آن الآن ان تشرح له دلائل النبوات وبراهين نبوة الانبياء جميعاً، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء، وأن تحدثه بعد ذلك عن القرآن ودلائل كونه كلام رب العالمين، وعن مظاهر الإعجاز فيه، ثم عن معنى الدين الذي أنزله الله على الانبياء جميعاً وكيف أنه دين واحد، بل لا يمكن إلا أن يكون ديناً واحداً، أتحدت فيه العقيدة التي هي الأساس، وتطورت التشريعات التي هي الفروع.
واعلم أنه ما يكابر إنسان في جحود شيء من هذه الحقائق التي مغرسها اليقين العقلي، ويكون صادقاً مع نفسه في جحوده بها، إلا لأنه لم يفرغ بعد من فهم ما هو أصل لها. فعليك أن تجعل من الروع به الى تلك الأصول، دليلاً يهديه إلى اليقين بهذا الذي يمعن في جحوده وإنكاره.