الشرط الثاني: أن تشيع الدعوة أولاً في صفوف المسلمين أنفسهم، حتى إذا استقام أمرهم على النهج السليم، وتجسدت في حياتهم معاني الإسلام وأخلاقه وفطرته، انبثق لهم من ذلك لسان مبين يدعو الأمم الأخرى إلى دين الله تعالى، وتجلى من سلوكهم أمام تلك الأمم خط مضيء يشق سبيله وسط أمواج الظلمات وعكر المذهب والأفكار المنحرفة، فكان في ذلك أكبر عامل يحمل تلك الأمم على الإقبال إلى الإسلام لفهمه على حقيقته اولاً، ثم الاعتناق له والانصباغ به ثانياً.
إن من أكبر الأخطاء، أن ينصرف المسلمون عن إصلاح حالهم وتقويم سلوكهم، لعجز أو لغيره من الأسباب، ثم يستعيضوا عن ذلك بالاتجاه إلى الأمم الأخرى، ليدعوهم، فيما يزعمون، إلى الله، وليرشدوهم إلى الإسلام والتمسك بآدابه وأحكامه!..
إذ إن تلك الأمم محجوبة عن الإسلام وحقيقته، وحب الإقبال إليه، بسبب ما تراه من واقع المسلمين وسوء حالهم، أكثر من أن تكون محجوبة عنه بالجهل به أو سوء الفهم له.
فإن رأيت أناساً من تلك الشعوب، يقبلون إلى الإسلام ويعتنقونه، فذلك لأحد سببين:
إما أنهم لحسن حظهم احتكوا باشخاص مسلمين صادقين مع الله في إسلامهم، فتنسموا فيهم عبير الفطرة الإنسانية الصافية وآنسوا منهم الخلق الإسلامي الكريم، وأحسوا بنور الهداية الربانية يغمر قلوبهم فيرتفع بها فوق صعيد الاهواء والشهوات الجانحة، فوجدوا في ذلك الضياء والأنس، أعظم ملاذ لهم من ظلمات حياتهم الخانقة، فدخلوا في دين الله عز وجل من هذا الطريق.
وإما أنهم أقبلوا إلى دراسات فكرية حرة عن الإسلام وحقيقته، فوجدوا حقائقه الناصعة وبراهينه العلمية والعقلية القاطعة، فازدادت كراهيتهم للباطل الذي يتقلبون فيه، من جراء ذلك؛ فتلاقى لديهم من اشمئزازهم مما هم تائهون فيه، ومن يقينهم الفكري بالحق الذي وقعوا عليه، عامل قوي حررهم من أسر شهواتهم وإباحياتهم، ثم وضعهم على رأس الطريق إلى صراط الله عز وجل الهادي إلى السعادتين الدنيوية والأخروية.
ولا ريب أن الذين دخلوا الإسلام لهذا السبب الثاني، أقل بكثير ممن دخلوه للسبب الأول. فإن التأملات الفكرية وحدها قلما اعتقت إنساناً أمتلكته دنيا الإباحية والشهوات، وعودته على حياة من النعيم المطلق والحرية التي لا حدود لها.
ويعرف هذه الحقيقة ورؤساء تلك الشعوب وقادتها، وهم الذين ما زالوا يتربصون بالإسلام وأهله الدوائر؛ فيسلكون إلى حجز الإسلام عن شعوبهم أقصر الطريق وأقربها، ألا وهو الإمعان في حمل المسلمين أنفسهم، على التنكر لإسلامهم، عن طريق إغراقهم بشتى ألوان الملهيات والمنسيات وتقطيع سبل ما بينهم إلى التشاور والتناصح والتضامن؛ حتى إذا رأوا بأعينهم سوء حال المسلمين في أخلاقهم وسائر أوضاعهم، ووقوفهم ـ في الجملة ـ على طرف النقيض مما يدعو إليه إسلامهم، قعدوا مطمئنين إلى واقع شعوبهم، ولم يبالوا ان يقوم فيما بينهم آحاد المسلمين يدعونهم إلى الإسلام أو يشيدون على أرضهم المساجد، أو يقدمون لهم كتباً عن الإسلام وحقيقته. فإنهم يعلمون جيداً أن هؤلاء المسلمين مهما نجحوا في إبراز جوهر الإسلام ناصعاً قوياً أمام أفكار شعوبهم، فإن في ذلك الواقع السيء المؤلم الذي استطاعوا أن يصبغوا البلاد الإسلامية به، ما يضمن الا تكون لتلك الاحاديث التي يدلي بها المسلمون فيما بينهم عن الإسلام، أي قيمة مؤثرة!.. فمنذا الذي سيصغي بيقين وإعجاز إلى ذلك الذي يتحدث عن كنوزه وأمواله الوفيرة، والناس جميعاً يرون ما يعانيه من بؤس وضنك، ويرون يده الممتدة بذل المسالة الى الغادين والرائحين؟!
ومن أبرز الأمثلة على هذه الحقيقة، ما تراه من سياسة أمريكا المختلفة للحريات في داخل بلادهما، وخارج بلادها. فهي تذهب في تقديس الحريات الإنسانية في داخل بلادها إلى أبعد مدى ممكن، وبموجب ذلك يحق لكل إنسان أن يمارس نشاطه الديني على النحو الذي يشاء، كما يحق للمسلمين أن يدعوا الناس إلى الإسلام ويعرفوهم عليه بالطريقة التي يحبونا.
إلا أنها ترقب النشاطات الإسلامية للمسلمين في بلادهم، بمنظار آخر، فهي لا تبالي أن تنسف شعار الحرية التي تعتز به في بلادها' من أساسه، إذا رأت حرية الدعوة الإسلامية في جهة ما من بلاد المسلمين أنفسهم، قائمة بجد على قدم وساق!..وربما استعانت بأيدي من قد نراهم أعداءاً لها، من أجل القضاء على تلك الحرية وإغلاق السبل أمام الدعوة الإسلامية الجادة أن تبلغ مداها الأخير.
والسبب في اتخاذها هاتين السياستين المتعارضتين، أنها تخشى من الاسلام على شعوبها، اذا تحرك ونشط في بلاد الاسلام، أكثر مما تخشى منه اذا نشط على ايدي آحاد المسلمين داخل بلادها، لما قد بينته لك.