فمغرس الإيمان في القلب، ومكان الإسلام الجسم كله، ومستقر الإحسان صلة ما بين القلب الذي آمن، والجسد الذي أسلم. ولا ينفرد واحد من هذه الإركان الثلاثة بوجود مستقل مفيد، بل الدين إنما يتكون من تآلف هذه الأركان الثلاثة التي لا تعدو أن تكون جذوراً وفروعاً وشرايين تنقل الحياة من هنا إلى هناك.
والمسلم إذا عاش، فلهذا الدين يعيش؛ وان دعا الناس، فإلى هذا الدين يدعو.
ومعاذ الله أن يكون هذا شأنه وجوهره، مجرد نظام بين الأنظمة، أو مجرد مذهب من المذاهب.
ليس للانظمة والمذاهب التي يتطاحن أهلها عليها اليوم، إلا وجود خارجي يبدأ وينتهي في ساحة المشاهدات والمحسوسات، وإنه لوجود ما أيسر ان يكون قناعاً يستتر خلفه النفاق ألوانا، ويكمن وراءه الخداع والكيد، أشكالاً!..
أما الإسلام فوجوده شعاع يمتد في كينونة الإنسان كله، بدءاً من باطن القلب إلى ظاهر الجوارح، من شأنه أن يحرر الإنسان من أنانية ذاته، وآفات نفسه، وثم يخضعه لأحكام ربه.
أو لم تتأمل في قول الله عز وجل: (قل أنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين) .
فتلك هي حقيقة الإسلام الذي يجب أن يتحقق به كل مسلم صادق مع الله في إسلامه. وذلك هو الشرط الأول الذي يجب توفره في شخص الداعي إلى الإسلام.
ولست أزعم أن على الذي يريد أن ينشط في مجال الدعوة إلى الإسلام، أن يكون قد وصل إلى رتبة الكمال في انصباغه بحقيقة الإسلام باطناً وظاهراً، على النحو الذي ذكرت. فلو كان هذا شرطاً لا بد منه. إذاً لوجب أن تفرغ المجتمعات الإسلامية من الداعين إلى الإسلام، ولكان عليهم جميعاً أن ينصرفوا إلى مجاهدة النفس والهوى، دون الاشتغال بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، إلى أن يصلوا إلى رتبة الكمال في الإيمان والإسلام والإحسان!..
غير أن من الواجب على المسلمين عامة، والقائمين بأمر الدعوة إلى الله خاصة، أن يتبينوا بعقولهم ـ على أقل تقدير ـ حقيقة الإسلام وأعماق نفسه على النحو الذي سبق بيانه، ثم عليهم أن يجاهدوا أنفسهم ابتغاء التحقق بذلك، كما كان يفعل سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، بدءأ بعصر الصحابة فمن دونهم. فيكون كل منهم رقيباً على قلبه ألا تعثو به الأهواء، وألا تتحكم به آفات النفس من أنانية وكبر وحسد وضغينة وحقد، وتعلق بالدنيا ومناصبها، وأن يسلك إلى ذلك السبل التي كان يسلكها الربانيون، وأن يعلم أن ذلك هو الجهاد الأكبر الذي لا يصلح من دونه ظاهر ما قد يتجلى به المسلم من طاعات وعبادات.
ودعك من الوقوف عند كلمة: الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، أحديث هو أم لا.. فحسبك في هذا الباب قراراً جازماً يفقهه كل مسلم أخلص لله دينه، قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:
(..ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب) فاذا لم يكن الجهد الذي يبذله المسلم في سبيل اصلاح قلبه ـ بعد هذا الكلام من رسول الله ـ جهاداً أكبر، فماذا عسى ان يكون الجهاد اذن؟..
فإذا تنبه المسلم بعقله الى هذه الحقيقة واستيقنها، ثم أخذ يسعى جهد استطاعته للتحلّي بها، فليكن عمله في نطاق الدعوة الى الله جزءاً من سعيه هذا، في حدود إمكاناته، وضمن قيود من الشروط والآداب التي نتحدث عنها الآن في هذه الرسالة العجلى.
على أن المسلم الذي لا يبالي أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، على الرغم من تقصيره في حق نفسه، وعدم التزامه بما يأمره به الناس، إنما يطبق القاعدة القائلة: ما لا يدرك لا يترك كله، وله على إرشاده الناس الأجر، كما أن عليه بسبب إهماله شأن نفسه الوزر، لا ينسخ أحدهما من الآخر شيئاً.
ولكن في ذلك، أن أثر الدعوة في نفوس السامعين ليس آتيا من مجرد الكلام المنطقي الذي يقبله العقل، وإنما هو آت، في معظمه، من تجليات ربانية على قلب الداعي والمرشد، عندما يكون قلبه صافياً من كدورات النفس وأهوائها، مشرقاً بشهود الله تعالى ومراقبته. إذا تنسكب من ذلك إشعاعات في كلامه، فلا يلبث أن يسري تأثيره الى افئدة السامعين، بدرجات متفاوته، كل حسب ما أبقاه طغيان الشهوات والأهواء فيه من بقايا الاستعداد أو زوايا الطهر والفراغ.
فإذا كان الداعي الى الاسلام يعاني من ظلام القلب وقسوته، مثل الذي يعانيه أولئك الذين يتوجه إليهم بالدعوة والإرشاد، غاية ما يمتاز به حديثه معهم حينئذ، سلامة المنطق وقوة الحجة والبيان. وهيهات أن يكون ذلك وحده كافياً، في أن يضيئ طوايا قلوب مظلمة. واذا لم يستظيء القلب بنور الحق، لم يكف أن يخضع العقل وحده لميزان المنطق، فإن أكثر ما يدعو الناس الى الانحراف عن جادة الصواب. طغيان الشهوات على قلوبهم، لا احتجاب دلائل الحق عن عقولهم.
...